من يتأمل القرارات الأمريكية في الفترة الأخيرة، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، سيجد نفسه أمام مجموعة من الألغاز التي تحتاج إلى المزيد من التفكير والتأمل، ليس فقط بسبب خطورة تلك القرارات، بل بسبب ما تبدو عليه من عشوائية تختلف تماما عما رسخ لدى صناع ومحللي السياسة في العالم، من أن صناعة القرار الأمريكي مسألة شديدة التعقيد، وتمر بالعديد من المراحل الدقيقة التي تجعل القرار معبرا عن المصالح، لكن يبدو أن السياسة الأمريكية في عهد ترامب مسألة مختلفة عما التي كان يعرفه العالم، وصناعة القرار "الترامبي" ـ إن جاز التعبير- تعد أمرا أكثر تعقيدا مما ألفه الساسة والمحللون على مدى التاريخ.
فقرارات مثل نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس، واعتبار المدينة الإسلامية والمسيحية المقدسة عاصمة أبدية لإسرائيل، وكذلك الحرب التجارية الدائرة حاليا مع الصين ودول أوروبا، وإدارة الخلافات مع دول حلف شمال الأطلسي "ناتو" بتلك الصورة الكارثية، كلها أمور تدعو إلى إعادة التأمل في منهج التفكير الأمريكي، وهل ما تزال تحكمه تلك المؤسسات التي استقرت لسنوات في قلب مؤسسات صناعة القرار في بلاد العم سام؟
الإجابة عن تلك الأسئلة تحتاج إلى قراءة كتاب مهم، وإن لم ينل نصيبه المستحق من الشهرة والانتشار لدى القارئ العربي، رغم صدوره قبل سنوات، وهو كتاب "عقل أمريكا: مؤسسات صناعة الرؤية والفكر في الولايات المتحدة الأمريكية"، للإعلامي والباحث د. حسن عبد ربه حسن، الذي عايش عن قرب تجربة مراكز صناعة الفكر الأمريكية Think Tanks، بحكم عمله لسنوات في أوروبا والولايات المتحدة.
يقدم الكتاب لمحة عن نشأة وتطور مؤسسات صناعة الفكر والرأي الأمريكية، ومدى علاقتها برأس المال، كما يستعرض الظروف التاريخية لنمو تأثير تلك المؤسسات، بالتزامن مع التطور الذي شهدته الولايات المتحدة في القرن العشرين، وحاجة "الإمبراطورية" الجديدة لعقل يدير ما تمتلكه من قوة، فمع تصاعد الدور الأمريكى في العالم عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية برزت الحاجة إلى مؤسسات تقدم النصح، وتضيء الطريق أمام صانع القرار الأمريكي، على أن يتجاوز دور تلك المؤسسات القيود الأكاديمية الجامعية، ويطرح رؤى أكثر تحررا وارتباطا بالمصالح البراجماتية للقطب الصاعد بقوة في الساحة العالمية.
و يشير الكتاب إلى أن الأشهر التالية مباشرة لتوقيع اتفاقيات انتهاء الحرب العالمية الثانية شهدت تزايد الطلب على "خبراء" في مجال الدفاع، وعلى "العلميين التطبيقيين"، للمساعدة في تأسيس وإدارة الكيانات الدفاعية الأمريكية، وتنظيم ما يتصل بمهامها الأمنية المنتشرة حول العالم، لذلك ظهرت في الولايات المتحدة مؤسسات مثل "راند" عام 1948، بالإضافة إلى حشد من المراكز البحثية التي ساهمت في وضع استراتيجيات الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة، والشرقي بقيادة الإتحاد السوفيتي حتى انهياره.
ويشير الكتاب إلى تنامي نفوذ مؤسسات البحث والفكر في الولايات المتحدة، حتى باتت كل مؤسسة من مؤسسات صناعة القرار مثل البيت الأبيض (الرئاسة) والكونجرس (البرلمان) والبنتاجون (وزارة الدفاع) تمتلك شبكة من المراكز المرتبطة بها، والتي تتنافس فيما بينها على تقديم الاستشارات المطلوبة لكل جهة من تلك الجهات، وبما يعبر عن ملفات الاهتمام والأولويات الخاصة بها.
ويقدم الكتاب معلومات تفصيلية عن مجموعة من مراكز الفكر والرأي الأمريكية الكبرى، مثل مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، ومجلس العلاقات الخارجية، ومؤسسة بروكنجز، ومركز سابات لدراسات الشرق الأوسط بمعهد بروكنجز، ومعهد الولايات المتحدة للسلام، واللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشئون العامة "إيباك"، ومعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، ومركز الدراسات العربية المعاصرة بجامعة جورج تاون، ومعهد أميريكان انتربرايز لبحوث السياسة العامة، ومؤسسة هيرتيج، وغير ذلك العديد من المؤسسات الكبرى.
كما يقدم الكتاب شهادات موثقة لعدد من كبار المتخصصين الذين عملوا في أو مع مراكز صناعة الفكر والرأي في الولايات المتحدة، مثل ريتشارد هاس مدير التخطيط السياسي السابق بالخارجية الأمريكية، ودونالد آبلسون الأستاذ بقسم العلوم السياسية بجامعة ويست أونتاريو، وعدد كبير من الباحثين الذين عملوا في كبريات المراكز الأمريكية، وساهموا في تعزيز دورها في السياسة الأمريكية، وبالتالي في السياسة العالمية.
هذا الكتاب يجعلك تطلع على ما يشبه التشريح للعقل الأمريكي، ويكشف بوضوح مدى التعقيد في عملية صناعة القرار والتفكير في القطب الأوحد حاليا، لكنه يجعلك أيضا تدرك حقيقة كيف أن الولايات المتحدة التي يقدمها هذا الكتاب أبعد ما تكون عن الولايات المتحدة التي يقودها ترامب، ويدفعها إلى الجنون.
|