رغم أستجابة الحكومات حول العالم إلي التداعيات السلبية لأزمة "كوفيد-19" بحزم عن طريق مزيج من الاستجابة النقدية والمالية والتي وصلت بالفعل إلى 10 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ومع ذلك، فإن تدابير التحفيز تلك قد لا تعزز الاستهلاك والاستثمار بنفس القدر الذي يأمله صانعي السياسات، طبقاً للتقييمات العالمية الأخيرة الصادرة عن إدارة الأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية.
ويأتي ذلك في سياق تحليل نشره موقع "بروجيكيت سينديكيت" لاثنين من الخبراء وهما الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد والأستاذ بجامعة كولومبيا "جوزيف ستيجليتز" والمدير العام السابق للشؤون الاقتصادية متعددة الأطراف بوزارة الخارجية في بنجلاديش "حامد راشد".
وتكمن المشكلة في أن جزءاً كبيراً من الأموال يتم توجيهها بشكل مباشر إلى احتياطيات رأس المال، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة في الموازنات الاحترازية، ويعتبر هذا الموقف أشبه إلى "فخ السيولة" والذي كان سبباً في إثارة القلق لدى "جون ماينارد كينز" أثناء فترة الكساد العظيم.
ونُفذت تدابير التحفيز الحالية بشكل يمكن تفهمه على عجل – بفعل حالة من الذعر - من أجل احتواء التداعيات الاقتصادية التي خلفها الوباء، وبينما لم يكن نهج "إطفاء الحريق" - عندما يتمثل كل ما هو مطلوب في كوب من الماء أو في هذا السياق ضخ سيولة - هذا مستهدف ولا دقيق، كان العديد من المعلقين يجادلون بأنه كان الخيار الوحيد حينذاك.
وبدون ضخ كميات هائلة من السيولة الطارئة، فقد كان من المحتمل حدوث حالات إفلاس واسعة النطاق وخسائر في رأس المال التنظيمي وحتى مسار أكثر انحداراً للتعافي، ولكن من الواضح الآن أن الوباء سوف يدوم لفترة أطول بكثير من بضعة أسابيع، كما كان يُفترض في بداية الأمر عندما تم اتخاذ هذه التدابير الطارئة، ويعني ذلك أن كل هذه البرامج تحتاج إلى تقييم أكثر دقة مع التركيز على الأمد البعيد.
وخلال فترات عدم اليقين الشديدة، ترتفع في العادة المدخرات الاحترازية مع احتفاظ الأسر والشركات بالسيولة النقدية (الكاش) خوفاً من المستقبل،ولا تُعد الأزمة الحالية بمثابة استثناء في هذا الشأن، حيث أن غالبية الأموال التي تتلقاها الأسر والشركات في هيئة شيكات تحفيزية ستظل باقية في حساباتهم المصرفية على الأرجح، بسبب القلق بشأن المستقبل وتقلص فرص الإنفاق على نطاق أوسع.
وفي الوقت نفسه، من المرجح أن تضطر البنوك إلى الاحتفاظ بالسيولة الفائضة، بسبب الافتقار إلى وجود مقترضين يتمتعون بالجدارة الائتمانية بل ولديهم الرغبة في الحصول على قروض جديدة، ولن يكون من المثير للدهشة حقيقة تضاعف حجم الاحتياطيات الفائضة التي تم الاحتفاظ بها في مؤسسات الإيداع الأمريكية تقريباً خلال الفترة بين شهري فبرايروأبريل الماضي من 1.5 تريليون دولار لتصل إلى 2.9 تريليون دولار.
وللمقارنة، بلغت الاحتياطيات الفائضة المحتفظ بها في البنوك خلال فترة الركود العظيم تريليون دولار فقط، وتشير هذه الزيادة الهائلة في احتياطيات البنوك إلى أن سياسات التحفيز التي تم تنفيذها حتى الآن كانت ذا تأثير مضاعف منخفض.
ومن الواضح أن الائتمان المصرفي وحده لن يقودنا للخروج من المأزق الاقتصادي الحالي، وما يجعل الأمور أكثر سوءاً أن السيولة الفائضة في الوقت الحالي قد تحمل تكلفة اجتماعية مرتفعة، وبعيداً عن المخاوف المعتادة بشأن الديون والتضخم، هناك كذلك سبباً وجيهاً للقلق من أن الكاش الفائض في البنوك سيتم توجيهه نحو المضاربة المالية.
وبالفعل، تشهد أسواق الأسهم حالة من التقلبات على نطاق واسع بشكل يومي، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى استمرار مناخ عدم اليقين المتزايد، ما يزيد من السلوك الوقائي والابتعاد عن الاستهلاك والاستثمار المطلوبين لقيادة التعافي الاقتصادي.
وفي هذه الحالة، سنواجه "فخ السيولة" و"لغز السيولة": زيادات هائلة في المعروض النقدي واستخدامات محدودة فقط من جانب الأسر والشركات، ويمكن أن تؤتي تدابير التحفيز المصممة بشكل جيد بثمارها بمجرد السيطرة على "كوفيد-19"، لكن طالما أن الوباء لا يزال قائماً فلن يكون هناك عودة إلى الحياة الطبيعية، والمسألة الرئيسية في الوقت الحالي تكمن في تقليل المخاطر وزيادة الحوافز الرامية للإنفاق، لكن طالما أن الشركات تشعر بالقلق من أن الاقتصاد سيظل ضعيفاً لنحو 6 أشهر أو عام من الآن، فإنها ستؤجل الاستثمار وهو الأمر الذي سيؤخر التعافي بالتبعية.
ويمكن للدولة فقط كسر هذه الحلقة المفرغة، حيث يجب على الحكومات أن تأخذ على عاتقها التأمين ضد مخاطر اليوم من خلال تقديم تعويضات للشركات في حالة عدم تعافي الاقتصاد بوتيرة معينة في الوقت المناسب.
وبالفعل يوجد نموذج للقيام بذلك، وهو "الأوراق المالية أرو-ديبرو أو Arrow-Debreu securities" (والتي سميت على هذا النحو نسبة إلى الاقتصاديين الحائزين على جائزة نوبل "كينيث أرو" و"جيرارد ديبرو")، والتي ستصبح مستحقة الدفع في ظل ظروف محددة مسبقاً، وعلى سبيل المثال، يمكن للحكومة أن تضمن ذلك إذا قامت الأسر بشراء سيارة اليوم وظل منحنى الوباء عند نقطة معينة لنحو 6 أشهر من الآن، فسيتم تعليق مدفوعات السيارات شهرياً،
وبالمثل، يمكن أن تستخدم القروض والرهون العقارية المشروطة بالدخل لتشجيع شراء مجموعة واسعة من السلع الاستهلاكية المعمرة بما في ذلك المنازل، ويمكن تطبيق شروط مماثلة على الاستثمارات الحقيقية التي تنفذها بها الشركات، وينبغي أيضاً على الحكومات أن تنظر في إصدار قسائم إنفاق لتحفيز استهلاك الأسر.
ويحدث هذا بالفعل في الصين، حيث تُصدر الحكومات المحلية عبر 50 مدينة كوبونات رقمية يمكن استخدامها لشراء سلع وخدمات مختلفة في غضون فترة زمنية معينة، ويُعتبر تاريخ انتهاء صلاحية هذه القسائم بمثابة محفزات قوية للاستهلاك والطلب الكلي على المدى القصير، عندما هناك حاجة ماسة لذلك.
ومع احتمال استمرار الوباء لفترة أطول مما كان يفترض في البداية، سيكون هناك حاجة لمزيد من التحفيزات.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة على سبيل المثال، قد أنفقت بالفعل 3 تريليونات دولار على أشكال مختلفة من المساعدة، فإنه بدون المزيد من التدابير - والتي من المأمول أن تكون مصممة بشكل أفضل - فإن هذه الأموال ستعمل بالكاد على تمديد حياة العديد من الشركات ببضعة أشهر فقط بدلاً من إنقاذهم بالفعل.
وتتجسد أحد الأساليب التي نجحت في العديد من الدول، في تقديم المساعدة للشركات شريطة الاحتفاظ بعمالها، الأمر الذي يدعم الأجور والتكاليف الأخرى بما يتناسب مع انخفاض الإيرادات في المؤسسة.
وفي الولايات المتحدة، اقترحت عضو الكونجرس من ولاية واشنطن النائبة "براميلا جايابال" تشريعاً على هذا النحو مثلما فعل العديد من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي.
ولا تُعد برامج التحفيز المصممة بشكل سيء غير فعالة فحسب، بل يحتمل أن تكون خطيرة.
ويمكن أن تساهم السياسات السيئة في خلق حالة من عدم المساواة، وعدم الاستقرار إضافة إلى تقويض الدعم السياسي للحكومة على وجه التجديد عندما تكون هناك حاجة لمنع الاقتصاد من الوقوع في حالة من الركود المطول، ولحسن الحظ هناك بدائل، ولكن معرفة ما إذا كانت الحكومات ستلجأ إلى تلك البدائل يظل مسألة يجب مراقبتها.
|