التوافق المُجتمعى قادر على تجميع عناصر الحل للمشكلات الاقتصادية وتوفير البيئة المُلائمة لتفاعلها
نواجه ارتفاع معدلات التضخم بإجراءات سريعة .. ولابد أن تتبنى الحكومة رؤية مُتوازنة فى الإصلاح
الترويج للمشروعات الاستثمارية الضخمة يستدعى اللجوء إلى بيوت خبرة دولية
هذه القراءة لتطوّر المشهد السياسى الاقتصادى من زاوية مصرفية ليست كالقراءات التى قدّمناها للقارئ فى الأعداد السابقة لأنها لا تعتمد على التحليل التقليدى للأحداث، وإنما تعتمد هذه المرة على بناء التحليل عبر حوار مباشر مع صانع مهم للأحداث، أو ربما الصانع الماهر الذى يحظى بالثقة فى هذه اللحظة.. الحوار التحليلى فى هذا العدد مع هشام رامز، محافظ البنك المركزي.
ولخصوصية هذا الحوار التحليلى لابد من التنبيه فى البداية إلى أن ما يرد فقط على لسان “رامز” هو فقط ما قاله، وأن أى تحليل أو اجتهاد فى فهم ما قال هو المساحة التى سمحت لنفسى بشغلها حتى أنقل للقارئ ما فهمت أنه ضروريًا أن يعرفه فى هذه اللحظة، وأسمح لنفسى أن أصفه بأنه “الأخطر” فيما تم التعرّض له من قضايا مع محافظ البنك المركزى خلال أحاديثه للإعلام والصحافة، خاصة أن القضية الرئيسية لهذا الحوار ترد على ادعاءات وكالة “رويترز” حول وصول مصر إلى مرحلة العجز عن دفع ثمن واردات البترول والقمح والسلع الأساسية.
تطرّق الحوار مع محافظ البنك المركزى إلى العديد من القضايا، ولكن رغم تعدّدها التقت جميعها عند سؤال واحد مُتعدّد الجوانب: هل نستطيع تجاوز العثرة الحالية؟ وهل العائق الرئيسى يتمثل فى خلل هيكلى أم خلل عَارض؟! وبطبيعة الحال ما خطة الخروج من هذا الوضع، وفقًا لآليات العلاج المُتعارف عليها عالميًا؟
·أساس الأزمة
هشام رامز على قناعة تامة بأن ما يُعانى منه الاقتصاد قابل للزوال، وهى بداية إيجابية بعيدًا عن التفاؤل والتشاؤم كما يقول، ولكن تبقى أهمية معرفة كيفية إزالة هذه المُعاناة وتكلفة ذلك، وهذا يرتبط بالقضية الأهم فى الحوار وهى مأزق عجز الموازنة المُزمن، فهذا العجز هو التشخيص المرضى العام الذى يتمثل فى الكثير من الأعراض التى تُعيد إنتاج الأزمة مرة أخرى ليزداد تعقد العجز بمرور الوقت فى ظل غياب سياسات الإصلاح الفعّالة.
يرى “رامز” أن غياب التوافق المُجتمعى الذى يُماثل “الهدف التشغيلي” فى السياسة النقدية من حيث قدرته الخلّاقة على تجميع عناصر الحل وتوفير البيئة المُلائمة لتفاعلها، ولكنه ليس هدفًا فى حد ذاته، بمعنى أنه لابد من وجود خطط حقيقية وفعّالة لتجاوز عجز الموازنة حتى تؤتى ثمارها فى ظل تحقق التوافق المجتمعي، الذى يُمثل إطارًا ضروريًا لتشغيل تلك الخطط، دون أن يلغى ذلك قدرتها أولاً على التعامل مع عجز الموازنة بنجاح.
فالتوافق المجتمعى يضمن التنسيق الكامل بين أطراف منظومة النشاط الاقتصادى ولكنه لا يستطيع ضمان سلامة الإجراءات والسياسات.
لهذا عندما سألت “رامز” عن حقيقة التوسّع فى الإصدار النقدي، وما إذا كانت هناك زيادة فى كمية طبع النقود، لم يناور واعترف بوجود توسّع فى هذا الاتجاه، لافتًا إلى أن ذلك يمثل عرضًا مُلازمًا وضروريًا فى ظل عجز مُزمن بالموزانة العامة، لأن الحكومة عندما تستدين من البنك المركزى وتطلب منه الوفاء باستحقاقات أذون الخزانة فى الآجال المُحدّدة لها وتتوسع فى الاستدانة المحلية، فهذا لا يعنى سوى اللجوء إلى الإصدارات النقدية الجديدة لأن البنك المركزى لا يملك أموالًا حتى ينوب عنها فى السداد وفى ظل نقص الموارد وتزايد ضغط الإنفاق العام لابد أن يحدث توسع فى الإصدار النقدي.
هذا الإيضاح بالغ الخطورة، بالرغم من أنه يمثل قاعدة نظرية مستقرة، فإن هناك من يحاول إنكاره فى مواقع اتخاذ القرار حتى لا تتهم الحكومة بالمساهمة فى زيادة معدلات التضخم، التى ترتفع بدورها كلما زاد معدل نمو عرض النقود على معدل نمو عرض السلع والخدمات، ويتحوّل الأمر إلى كارثة فى نهاية المطاف كلما غابت الشفافية واستمر الأداء على ما هو عليه دون إصلاحات حقيقية، وهنا فإن الأزمة تعاود إنتاج أسبابها، ويكون الإصدار مجرد هروب إلى الأمام مع ارتفاع فى التكلفة الاقتصادية والاجتماعية على السواء حيث يزيد ارتفاع الأسعار من أعباء تكلفة المعيشة وبالتالى تهديد السلم المجتمعي.
وحتى لا يكون هناك توسع فى الإصدار النقدى كما يرى “رامز” لابد من السيطرة على عجز الموازنة والبحث عن موارد حقيقية لسد العجز أو تقليص الفجوة بين الإيرادات والنفقات وفى هذه الحالة هناك إجراءات يتعين على الحكومة اتخاذها فيما يتعلق بالسياسة المالية، فيما يقوم البنك المركزى بالإجراءات الضرورية فيما يخصه على صعيد السياسة النقدية، وإن ظل المُعوّل الرئيسى فى تقليص تلك الفجوة على السياسة المالية، لأن دور السياسية النقدية ينصب على علاج الآثار المرتبطة بعرض النقود، ولهذا فإن البنك المركزى يراقب بكثير من الحرص تطور معدلات التضخم ويتدخل لاستيعاب آثارها عن طريق أسعار الفائدة كلما دعت الحاجة للتأثير فى كمية النقود.
· استهداف التضخم
البنك المركزى إزاء هذا الوضع كما أكد “رامز” لابد أن يُطارد معدلات التضخم التى تؤثر فى المستوى العام للأسعار، ولهذا يظل الهدف الأساسى للسياسة النقدية هو استهداف التضخم فبعد أن ارتفع المعدل الشهرى فى نهاية “فبراير” بواقع 2.5% وهو معدل نمو شهرى حاد لم نصل إليه سوى مرة واحدة خلال عام 2010 كان لابد -كما قال لنا- أن يأخذ خطوة استباقية سريعة فى مُواجهة هذا التطوّر، لهذا كان قرار لجنة السياسة النقدية فى شهر مارس بزيادة أسعار الإيداع والإقراض لدى البنك المركزى بواقع 0.5%.
ويؤكد “رامز” أن هذا التدخل كان ضروريًا لأن آثار التضخم أخطر كثيرًا على الأجور الثابتة والموسمية من تأثير ارتفاع الفائدة على الاستثمارين المحلى والأجنبى خاصة أن ارتفاع معدلات التضخم لم يأتِ فى قائمة السلع الغذائية وحدها وهى شديدة التأثر والقابلية لارتفاع الأسعار، وإنما طالت العديد من القوائم الأخرى المكونة للرقم القياسى لأسعار المستهلكين، وبالتالى لم يكن على “المركزي” التباطؤ فى إظهار رد الفعل اللازم، ونحن نراقب مرة أخرى معدلات التضخم التى تم تسجيلها فى مارس لنبنى رد فعل مُلائمًا يضمن الاستقرار للمستوى العام للأسعار.
اذا تأملنا ما يقوله “رامز” سنعى على الفور أن البنك المركزى فى هذه اللحظة يُقاوم الأعراض التضخمية لعجز الموازنة، فعندما تضطر الحكومة إلى العمل على تقليص الدعم الذى يذهب إلى المحروقات، فإن ذلك يؤثر كما فى مشكلة السولار على المعروض منه، إضافة إلى جملة المعوقات اللوجيستية المُرتبط بمنظومة النقل على الأسعار بوجه عام، وبالتالى يكون تدخل “المركزي” لدعم العُملة المحلية وزيادة سعر الفائدة عليها إيداعًا واقتراضًا للحد من الميل الحدّى للاستهلاك فى ظل معدلات التضخم المرتفعة حتى تعود الأسعار تدريجيًا للتوازن بناء على آليات العرض والطلب.
هذا ما يمكن للبنك المركزى القيام به فى إطار علاج عجز الموازنة المُزمن بينما يتوجب على الحكومة جملة من الإصلاحات المالية لعل فى مقدمتها إصلاح بيئة ومناخ الاستثمار، وتبنى سياسة توسعية واضحة المعالم تعتمد على زيادة الإنتاج ومن ثم زيادة العائدات الضريبية للدولة بما يؤثر إيجابًا فى نمو الناتج الإجمالى المحلي.
· إصلاح مناخ الاستثمار والأعمال
فى إطار توصيفه للأزمة الاقتصادية نبّه “رامز” إلى ضرورة تبنى الحكومة رؤية مُتوازنة فى الإصلاح لا تعتمد فحسب على علاج جانب النفقات وحده فى هيكل الموازنة، وإن كان من الضرورى فى هذا السياق -وفقًا له- الاعتراف بأن الحكومة الحالية التى يرأسها الدكتور هشام قنديل هى عمليًا أول حكومة تتبنى سياسات فعلية لترشيد استخدام الدعم، وتمنح هذا التوجّه اهتمامًا خاصًا فى محله، ولكن يتوجّب عليها أيضًا وبذات القدر من الاهتمام -كما يرى “رامز”- بجانب الإيرادات فى الموازنة، وهو ما يحرص على التنبيه إليه خلال مشاركته فى اجتماعات وزراء المجموعة الاقتصادية.
هذه الملاحظة التى أبداها “رامز” هى أحد أسباب الارتباك فى إدارة الملف الاقتصادي، فنحن لدينا عجز موازنة يتفاقم شهرًا بعد آخر حتى قارب على 200 مليار جنيه، فيما يتم التركيز عند التخطيط لعلاج هذا العجز على جانب النفقات ولهذا سياسات تحفيز الاستثمار وتنمية بيئة الأعمال لا تحظى بالعمق الواجب عند الطرح واتخاذ القرار.
ويؤكد “رامز” فى هذا الصدد على ضرورة تبنى سياسات توسعية هدفها زيادة الاستثمارات العامة وتشجيع الاستثمارات الخاصة من خلال حزمة من الحوافز، والعمل على تفادى الإجراءات التى تهز الثقة فى بيئة الأعمال والاستثمار مثل فرض الضرائب المُفاجئة، ومُلاحقة المُستثمرين ورجال الأعمال قضائيًا قبل اللجوء إلى التسويات الودية، مما يهز ثقة المستثمر الذى يرغب فى دخول السوق حديثًا.
ويلفت “رامز” فى هذا الصدد الانتباه إلى أهمية الترويج للمشروعات الاستثمارية الضخمة التى تحتاج إلى “Master Plan” عالمية تتشارك فى وضعها مع الحكومة، بيوت خبرة دولية تساعد فى ربط التخطيط لمستقبل تلك المشروعات بالتسويق فى أوساط المستثمرين، مؤكدًا أن مصر تملك ميزة نسبية واضحة فى مجالى السياحة وخدمات النقل واللوجيستيات، ولابد من أخذ ذلك فى الاعتبار عند التخطيط لزيادة الموارد مع الاستعداد لمنح مزايا حقيقية للمستثمرين الذين يتخذون الخطوة الأولى لدخول السوق المحلية، فهكذا فعلت الدول التى سبقتنا فى هذه التجارب، حتى الولايات المتحدة عند التخطيط لمدينة “لاس فيجاس” التى كانت صحراء قبل أن تصبح نقطة تركز عالمية لخدمات الترفيه.
· استقرار سوق الصرف
هذه الملامح التى تحدّث عنها “رامز” لتشجيع الاستثمار أحد أهم عوامل الجذب فيها يرتبط بسوق الولاية الأولى عليه للبنك المركزى، وهذه السوق هي سوق الصرف، لهذا فهو لا ينسى عند الحديث عن إصلاح بيئة الأعمال والاستثمار الإشارة إلى أهمية استعادة الاستقرار داخل هذه السوق، ولهذا أكد فى بداية حديثه لنا على إصراره على مواجهة السوق الموازية أو السوداء للدولار والدفاع عن مستوى الاحتياطى الذى وصل إلى 13.6 مليار دولار، وهو رقم بالكاد يُغطى الواردات السلعية لثلاثة أشهر.
واستبعد “رامز” بصورة قاطعة تحقّق الشائعات التى يُطلقها المُضاربون حول وصول سعر صرف الدولار إلى سقف التسعة جنيهات خلال وقت قريب، مؤكدًا أن هذه الشائعات هى التى تسعى إلى “زعزعة” الثقة بالعُملة الوطنية وخلل "قوى طلب" غير حقيقية على الدولار الأمريكى لتوفير البيئة المُلائمة لتحقق هذه الشائعات، مُشددًا على استمراره فى مُحاصرة السوق السوداء دون أن يحوّل هذه المواجهة إلى حرب يستغلها المُتربصون بالسوق.
وأكد “رامز” أنه يقف وراء سياساته تجاه سوق الصرف وثقته فى تحقيق الإنجاز الذى تحقق فى 2004 بعد أن كان سعر الدولار قد وصل إلى 7 جنيهات ثم انخفض بعد ذلك إلى نحو 5.70 جنيه للدولار، وهو ما سيحدث مُجدّدًا بصرف النظر عن القيمة التى سيستقر عندها سعر صرف الدولار مقابل الجنيه.
وأوضح “رامز” أنه يرفض التضحية بـ”الاحتياطى من العملات الأجنبية” فى سبيل استعجال الوصول إلى الاستقرار النقدى وأن هذا التوجه ليس بالضرورة هو التحرك الأمثل لاستهداف هذا الاستقرار، خاصة بعد النزيف الذى تعرض له الاحتياطى فى الفترة الماضية.
ما قاله “رامز” يؤكد أنه يملك رؤية خاصة لإدارة هذه القضية لكنه يقدّر فى الوقت نفسه أهمية الوصول إلى الاستقرار النقدى لصالح خلق بيئة جاذبة للاستثمار -كما يؤكد- ولكن دون التضحية بما تبقى من احتياطٍ استراتيجى لأن الإفراط فى استعجال الاستقرار النقدى عن طريق التفريط فى الاحتياطى سوف تكون له نتائج عكسية تؤثر على الجدارة الائتمانية للدولة.
من هذه الجهة، حيث التأثير الحاسم للاستقرار النقدى على جذب الاستثمار، يمكن الثقة فى الخطة التى يتبناها البنك المركزى شريطة ألا تتعرّض هذه السياسات لضغوط تفكيك الجهود الإصلاحية التى يبذلها “رامز” داخل “المركزي” فى هذا المناخ، وهنا نعود مرة أخرى لضغوط عجز الموازنة وعدم فاعلية السياسات المالية حتى الآن لمُواجهتها.
إننا نعود إذًا إلى نقطة البداية مُجدّدًا!
(نشر الحوار في الخبر الاقتصادي متزامنا مع نشره في مجلة المصرفي)
|