مقال : المُزايدون.. ونعرات الفئوية

 


 



لم أستطع عبور "مانشيت" جريدة "المصرى اليوم" فى عددها الصادر اليوم دون تعليق، فقد أشار العدد إلى أن مصادر "مطلعة" كشفت للجريدة عن وقوف 3 من رموز النظام السابق خلف حملات "التهييج" الفئوى التى اندلعت فور سقوط هذا النظام, وهو ما بدا لى منطقياً, فلو أن الإرادة الثورية واثقة من قوتها وعدم إلتباس أهدافها, فإنها يقيناً لن تتخلى عن أصحاب الثورة الحقيقيين الذين لا يتزعزع إيمانهم بالثورة, كما لا يتزعزع إيمانهم بحقوقهم.. ولأن الثورة ليست ليوم أو بعض يوم فإن الهدف الرئىسى يصبح هو اجتثاث شأفة النظام السابق من جميع مواقع صنع القرار أو التأثير فيه أولاً, ثم التحوّل إلى تنفيذ المطالب الفئوية على أرض صلبة لا تسلط فيها الأسلحة من وإلى قوى الثورة بعضها البعض, لهذا لم أستبعد وقوف تلك الرموز أيًا كانت أسماؤهم رغم ارتفاع حدة "نظرية المؤامرة" خلف هذا الادعاء, ولكنى بشكل شخصى أقبله لأن الافتراض مع وجود حُسن النية فى أن هذه المطالب نشأت من تلقاء ذاتها تحت وطأة الظروف التى عانتها الطبقة العاملة على اختلاف توزيعاتها داخل سوق العمل, فإن إذكاءها ومحاولة الوقوف بين هذه المطالب وهدف التحرر والخلاص من ذيول السلطة المستبدة لا يمكن التغاضى عنه.



لا توجد دولة حول العالم قامت الثورة فيها اليوم, وتخلصت فى الغد من جميع مشكلاتها, ولكنه الوعى الثورى الذى يكشف مدى نضجها فى مواجهة "المزايدين" الذين لا يعنيهم الدفع بهذه الجموع إلى حافة الهاوية.. بينما الوعى الثورى يوجب الثقة فى أن عدالة الحقوق وشرعيتها هو جزء أصيل من الشرعية الثورية ليس لأحد أن يزايد عليه أو يقول إن هذا حق اليوم فلابد أن آخذه, وأنه قد لا يكون حقاً غداً فيجوز أن أفقده.. هذا يتعلق بأجواء الانتفاضات لا الثورات العظيمة كهذه الثورة, صحيح أن التركة الثقيلة من الفساد التى تركها النظام السابق تفرض الكثير من الشكوك, ولكن على قوى الثورة المخلصة أن تثق فى ذاتها وأنها على اختلاف تكوينها الحصن الحصين ضد محاولات استنزافها من جانب المتآمرين الذين يطمعون فى الدفع بها إلى حافة الفوضي, أو من جانب المزايدين الذين يقولون إن عدالة ومشروعية الحقوق اليوم وليست غداً وكأنها شرعية ظرفية ترتبط بأوضاع انقلابية لا يمكن ضمانها.



أيًا ما كان الأمر فإن ما يعنينى الإشارة إليه اليوم هو أن الوعى الثورى فى مصر الجديدة أثبت نضجه, واستجاب لنبذ النعرات الفئوية صحيح أن ذلك لم يحدث بصورة كاملة فى جميع المواقع, حيث مازالت بعض مصانع المحلة ساخنة, وهناك القليل من الوقفات الاحتجاجية, إلا أن هذا لا يقارن بما حدث "الأحد" و"الاثنين" الماضيين بأى حال, وهو ما يعنى أن حالة النضج تنتشر بإيقاع أسرع كثيراً من توقعات نهاية الأسبوع الماضي, وهى فى تقديرى دلائل تعافى كنت قد بشرت بها منذ يومى أمس وأمس الاول.



فى هذا السياق بدأ البنك المركزى اليوم إجراءات التفاوض مع ممثلى العمالة داخل البنوك, وظهرت بوادر تفاهمات واسعة ألقت بظلالها على مناخ العمل الذى مر هادئًا اليوم بصورة تشى بالثقة فى عودة البنوك إلى ممارسة دورها الطبيعى بعد استجابات مُرضية لمطالب العاملين واتفاقات على استمرار إجراءات تسوية هياكل الأجور والحوافز دون التأثير على سير العمل.. فانتظام البنوك فى أداء دورها هو مفتاح الإصلاح.. حيث الأرقام وحدها يمكنها ترجمة الوعود إلى حقائق طالما أن هناك عملاً يتم وعائدات تتحقق لأنه لا حقوق على الإطلاق فى بيئة وأجواء عاطلة.



تحتاج الثورة فى الأيام القليلة المقبلة إلى عقد اجتماعى جديد يسعى إلى التوافق حول نسق جديد للقيم يتلاءم مع طبيعة الدولة المدنية التى ينتظر ولادتها فى غضون أشهر قليلة.. وأعتقد أن ذلك يحتاج إلى حوار جاد وبناء حول ثقافة الاختلاف ومفهوم الوفاق الاجتماعي, خاصة أن مفاسد النظام السابق توشك أن تُوجد مناخًا طاردًا للاستثمار.. والرغبة فى الخلاص منها وتصفيتها تكاد تدفع البعض إلى ما يشبه "المكارثية" الجديدة التى تفتش عن اتهامات "الخيانة" و"التخوين"!



لا أدعو إلى التسامح مع الفاسدين وسافكى دماء الشهداء والمجرمين الفجرة, ولكنى أدعو إلى ثقافة اختلاف جديدة.. تحدد ملامح الوفاق الاجتماعى القادم وسيكون ذلك موضوعًا لمقال آخر بإذن الله.. وليحفظ الله مصر ويبارك ثورتها.



جميع الحقوق محفوظة لموقع الخبر الاقتصادي