تحتفل الأسر والعائلات الصينية فى الخامس من شهر إبريل من كل عام، وعلى مدى ثلاثة أيام متعاقبة، بعيد (تشينغ مينغ) أو ما يعرف بـ"ذكرى الموتى" أو عيد "كنس القبور"، وهو أحد أهم الأعياد التقليدية الصينية التى يتذكر خلالها الصينيون أساطير الأجداد والأقارب الذين فارقوا الدنيا، ولم يتبق إلا ذكراهم وشواهد قبورهم، وهو أيضا عيد يجمع بين الحزن والفرح والتطلع للحياة وأخذ العبر من قداسة الموت، حيث تعنى كلمة "تشينغ مينغ" فى الصينية النقاء والصفاء، ويسمى أيضا بعيد "الأشباح السعيدة" فى بعض المناطق والأقاليم الصينية النائية.
وعيد "تشينغ مينغ" احتفال صينى لإحياء ذكرى الراحلين من الأهل والأعزاء وتذكر محاسنهم، وزيارة الشهداء من المحاربين القدماء وأضرحتهم، وخلال هذا العيد تكون المقابر مزدحمة بالزوار، ويقوم خلالها الأهل بتنظيف قبور موتاهم أولا، ثم يضعون عليها الزهور وبعض الأشياء التى أحبها الراحلون فى حياتهم، ثم يشعلون البخور ويحرقون الأوراق ويقدمون احترامهم واقفين صامتين أمام القبور، ويصنعون كعك من الأرز، ويرتدون قبعات مصنوعة من أوراق الشجر فوق رؤسهم، كما يقدمون الهدايا للموتى، وبعض هذه الهدايا تتضمن أوراق مالية مقلدة فئة 100 يوان وبعض الصور التى تتضمن هواتف محمولة من نوعية "أى فون" و"أى باد" وصور للذهب والمجوهرات، وهى كما يعتقدون تدخل البهجة على الموتى، وتشعرهم بالسعادة والتسلية فى قبورهم وعادة ما يصادف قدوم العيد اعتدال الجو ونضرة الزهور، حيث اعتاد الصينيون الخروج إلى ضواحى المدن المكسوة بالخضرة للنزهة والتمتع بالمناظر الربيعية لذلك يسمى أيضا فى عدد من الأقاليم الصينية "عيد السير وسط الخضرة".
ويرجع تاريخ عيد "تشينغ مينغ" إلى أسطورة قديمة خلال عهد الإمبراطور الصينى القديم "جين ون قونغ" الذى كان يتعرض للاضطهاد قبل اعتلاء العرش قبل 2600 عام، وذات يوم فقد وعيه "جين ون قونغ" من شدة الجوع والعطش، فلم يجد أتباعه ما يقدمونه لإنقاذه، فقام احد المخلصين له ويدعى "جيه تسى توى" بقطع قطعة من لحم فخذه لينقذه من الجوع، وبعد مرور 19 عاما عاد "جين ون قونغ" من منفاه ونجح فى اعتلاء العرش، حيث كرم كل من ساعده بجانبه بمناصبه رفيعة.
لكن جيه تسى توى الذى لم يتذكر تكريمه، لكن بمجرد أن تذكر الإمبراطور هذا الأخير، ارسل لطلبه وتكريمه، لكن جين تسى توى رفض التكريم وهرب إلى الجبال، فأمر الإمبراطور البحث عنه بإشعال النيران فى الجبال حتى يضطره للخروج، لكنه لم يخرج وفضل الموت محترقا مع والدته، وحدادا على هذا البطل الذى اختار الموت على المنصب الرفيع صار الناس يمتنعون فى ذكراه عن إيقاد النيران فيأكلون أطعمتهم باردة، وفى عهد أسرتى مينغ وتشينغ الملكيتين "1368 – 1911" أصبح هذا اليوم مناسبة تقليدية لتقديم الولاء للأسلاف وزيارة ضرائح الموتى.
وهناك العديد من العادات الشعبية فى الصين وذلك منذ زمن بعيد، حيث صور شعر مكتوب فى عهد أسرة سونغ الملكية (960-1279) العادات المألوفة عند الصينيين فى عيد تشينغ مينغ، جاء فيه "إنها مناسبة يزور فيها الناس بتتابع الضرائح الكثيرة على قمم الجبال الجنوبية والشمالية لتقديم القرابين. ويتطاير رماد الأوراق النذور فى السماء كأسراب من الفراش الأبيض المحلق، ويذرف الناس دموعهم ودمائهم مثل الوقواق الأحمر.
ولم يقتصر الناس على حرق أوراق النذور فحسب، بل كانوا يقدمون عشرة أطباق كبيرة من الأطعمة إلى الضرائح أيضا، كما ظلت زيارة الضرائح عادة شعبية وظلت مستمرة حتى الآن، بالإضافة إلى ذلك، تقوم الآن بعض المنظمات والمجموعات بزيارات جماعية لضرائح الشهداء، كما إعتاد الناس خلال العهود القديمة بقيام نزهة لقطف القرملة، وما زالت هذه العادة مستمرة حتى الآن.
وحول تسمية هذا العيد بعيد تشينغ مينغ، يقول الباحثون الصينيون، كلما حل هذا العيد، رفعت الطبيعة ستار الربيع، حيث يبدأ النسيم العليل إرسال دفئ لطيف وتنمو الأعشاب الطرية بصورة نشيطة قوية وتغمر مباهج الربيع الدنيا، وربما هذا هو معنى "تشينغ مينغ". ويصادف عيد تشينغ مينغ بالضبط الموسم الممتاز للزراعة والبذر الربيع، وتتحدث كثير من الأمثال الزراعية عن الأعمال الزراعية بمناسبة عيد تشينغ مينغ، مثلا، "يتعين زراعة البطيخ والفول بمناسبة حلول عيد تشينغ مينغ". و"لا تغرس الأشجار متأخرا بعد عيد تشينغ مينغ".
ويضيف الباحثين أن هناك الكثير من الأطعمة المتنوعة فى أنحاء الصين التى تختلف من مقاطعة أو قومية لأخرى، لكن فيما يخص أطعمة ومشروبات عيد تشينغ مينغ، وبسبب ارتباط عيد المأكولات الشتوية وعيد تشينغ مينغ، فإن بعض المناطق حافظت عادة على أكل طعام بارد فى عيد تشينغ مينغ. ففى بلدية جى موه بمقاطعة شان دونغ، يأكل الناس بيض الدجاج والفطير البارد، أما فى بلدية لاى يانغ وجاو يوان وتشانغ داو، يفضل الناس أكل البيض وأرز جاو ليانغ، ويقال إن لم يفعلوا ذلك يتعرضوا لسقوط كرات البرد.
وفى تاى آن يأكل الناس فطيرة مقلية باردة، ويقال إن ذلك يطهر العين ويحسن النظر، أما فى قطاع جين جونغ فيلزم الناس بعدم إشعال النار فى اليوم السابق من عيد تشينغ مينغ.
وأثناء الاحتفال بعيد تشينغ مينغ بمدينة شانغهاى، من المعتاد أن يأكل الأبناء "تشينغ توان"، ويتم خلط عصير الخضروات مع الأرز الدبق، فتكون خضراء اللون عندما تخرج من البخار، ورائحتها تعبق الأنف، وهى من أهم عادات الطعام بهذا العيد بشانغهاى.
وفى الكتب القديمة صورت أبيات من الشعر من عهد أسرة سونغ الملكية (960-1279) العادات المألوفة عند الصينيين فى عيد تشينغ مينغ، بأنها مناسبة يزور فيها الناس بتتابع الضرائح الكثيرة على قمم الجبال الجنوبية والشمالية لتقديم القرابين، حيث يتطاير رماد الأوراق النقود فى السماء كأسراب من الفراش الأبيض المحلق، ويذرف الناس دموعهم ودمائهم مثل طائر الوقواق الأحمر، ولم يقتصر الناس على حرق أوراق النقود بل كانوا يقدمون عشرة أطباق صينية تقليدية من البيض الملون والأرز اللزج إلى الضرائح أيضا، كما ظلت زيارة الضرائح عادة شعبية وظلت مستمرة حتى الآن، بالإضافة إلى ذلك، تقوم الآن المنظمات والمجموعات بزيارات جماعية لضرائح الشهداء من المحاربين القدامى.
كما اعتاد الناس خلال العهود القديمة بقيام نزهة لقطف القرملة، وهو نبات فصلى له زهرة ملونة، وما زالت هذه العادة مستمرة حتى الآن. وبمناسبة حلول عيد تشينغ مينغ، تقوم الفتيات والنساء بنزهة ربيعية حيث يقطفن بعض الحبوب البرية الطازجة ويجلبنها إلى بيوتهن لإعداد طعام "الجياوتسى" ومعجنات الذرة المحشوة، إضافة لغرس الأشجار كنوع من الحياة الجديدة.
من جانبه وقال وانغ لاى هوا البروفيسور فى معهد العلوم الاجتماعية ببلدية تيانجين الصينية إن هذا التقاليد كانت شائعة فى العصر القديم بالصين، حيث شاع اطلاق الطائرات الورقية بين الصينيين فى المناطق الشمالية بعد عصر اسرة تانغ (618- 907م) وعصر أسرة سونغ (960- 1279م )، وكان الأشخاص يكتبون أمراضهم ومخاوفهم، وكل ما يقلقهم على الطائرات الورقية، حيث كانوا يقومون بقص الخيوط عندما تطير الطائرات الورقية فى السماء، ليذهب القلق معها بعيدا وتطير إلى السماء دعواتهم من أجل حياة سعيدة فى مناسبة هذا العيد فى العصور القديمة، ولم يقتصر الامر على الطائرات الورقية فى النهار فقط بل فى الليل أيضا، حيث كان يتم ربط الطائرات الورقية بفوانيس لتضئ عند طيرانها فى السماء مثلما تسطع النجوم فى الليل، حيث يؤكد الخبراء النفسيين أن اطلاق الطائرات الورقية يعد نشاطا مفيدا جسديا ونفسيا, اذ يساعد فى استرخاء العضلات والعيون.
وتختلف الطقوس الخاصة بهذا العيد بين القوميات المختلفة فى الصين، ففى هذا العيد يزور أبناء قومية "هان" وبعض الأقليات القومية قبور موتاهم، ولا يقومون بالطبخ بل يتناولون الأطعمة الباردة فقط، حيث يتزامن هذا العيد مع ما يعرف بمعتقدات هانشى، حيث كان القدماء فى الصين يواصلون نشاطات معتقد هانشى خلال موسم تشينغمينغ، فأصبحت ذكرى معتقد هانشى وموسم تشينغ مينغ عيدا واحدا تدرجيا، حيث لا يطبخ الناس ويأكلون الأطعمة الباردة، وتشكلت تدريجيا أيضا عادة زيارة القبور لتذكر الأجداد.
وخلال العيد يكثر زراعة شتل الأشجار، حيث كان الصينيون منذ القدم يزرعون الأشجار فى عيد تشينغ مينغ، فيما كان يعرف وقتها أيضا بعيد زراعة الأشجار ثم حددت الحكومة الصينية عام 1979 الثانى عشر من مارس كل عام عيدا لزراعة الأشجار يتم الاحتفال به قبيل وحتى موعد عيد تشينغمينغ، وخلال هذا العيد شارك الرئيس الصينى هو جين تاو المواطنين الصينيين بزراعة شتلات الأشجار، ودعا المسئولين والمواطنين لزيادة زراعاتها فى كافة المناطق الصينية.
وخلال العيد يولى المواطنين الصينيين اهتماما بالغا بطقوس الجنازات بسبب تأثير التقاليد الكونغفوشيوسية القديمة، ويعتقدون أن حجم المقبرة يحدد درجة الاحترام للمتوفين ويمثل تقدير لهم، وقال شيو تشانغ له نائب الرئيس التنفيذى لكلية الدراسات التنموية لمجرى نهر اليانغتسى التابعة لجامعة هوادونغ الصينية لتأهيل المعلمين إن "مكان أية مقبرة لا يمكن تبديله فى ثقافة الجنازات الصينية على المدى القصير، وستكون هناك حاجة كبيرة للمقابر، وفى الوقت نفسه، تتقلص المساحات المتاحة للمقابر باستمرار مع التوسع العمرانى".