القضية التى تفرض نفسها على صانع القرار الاقتصادى والمُتلقين لهذا القرار أو جمهوره المستهدف لا يكاد يتجاوزها حتى يجد نفسه مُجبرًا على العودة إليها بصيغة أو بأخري.. نهاية المطاف يعود إلى الدوران فى فلكها لأنها تستحق أن تكون محط هذا الاهتمام وتلك الأهمية، فهى تصادر دون مبالغة على مستقبل هذا الوطن.
قبل أيام ليست بالبعيدة أعادنا الرئيس عبد الفتاح السيسى إلى استحضارها وإعادة طرحها عود على بدء خلال افتتاحه أعمال التطوير بمطار الغردقة الدولى عندما تحدّث عن حجم مشروعات جديدة لدى الحكومة فى المرحلة الراهنة بتكلفة 40 مليار جنيه.. وتساءل: لماذا لم يسأله أحد من أين سيتم تدبير تلك الأموال فى الوقت الذى تلتزم فيه الحكومة بالعمل على خفض سقف الاستدانة العامة؟
إنها قضية التمويل لمشروعات الدولة المستقبلية التى يتسلّط عليها سيف الموازنة العامة ومخاطر التوسع فى الاستدانة.
تمويل المشروعات المستقبلية على وجه السرعة وبقدر عال من الكفاءة يساوى العبور إلى المستقبل الذى تقل تكلفته كلما كان اليوم قبل الغد، بل واللحظة قبل ما بعدها.. فالرهان ليس على الإنجاز وحده وإنما بالقدر نفسه على الزمن الذى قد يستغرقه.
من هنا صعوبة ودقة الموقف الذى نمر به.. فالتمويل له أوجه معروفة مُقدمًا سنُحاول استعراضها فى السطور التالية استجابة للسؤال الذى وجّهه الرئيس
“السيسي” لأن البحث عن حلٍ فعَّال لهذه المشكلة يتفادى ارتفاع التكلفة بات فرض “عين” وليس “كفاية” على كل من يمكنه تقديم أى إضافة تقربنا من هذا الحل.
* الاقتراض من الداخل طريق مسدود
أول أوجه التمويل الأكثر شيوعًا والأقرب إلى صانع القرار ليس فى مصر وحدها وإنما فى غالبية دول العالم هو الاقتراض من الداخل أو اللجوء للاستدانة من السوق المحلية بالقطع متى كانت هذه السوق قادرة على تلبية الطلب وفى حدود التكلفة غير المُوجعة التى لا تخل بفرص السداد أو تحد منها وتهدّد الموازنة العامة للدولة.
هذا الحل أو وجه التمويل المُتمثل فى الاستدانة من الداخل أصبح طريقًا مسدودًا فى الحالة المصرية لأن مستوى الدَّين العام وصل حدودًا حرجة ولم يعد يحتمل مزيدًا من التوسع فى الاستدانة العامة من الداخل فى ظل مستوى عجز الموازنة الراهن الذى وصل إلى 255.4 مليار جنيه تمثل 12.8 % من الناتج المحلى الإجمالى حيث إن كل توسع فى الدَّين يساوى مزيدًا من العجز الذى يحتاج إلى مزيد من التمويل والاستدانة ومن ثم الدوران فى حلقة مُفرغة، لهذا كلما طرح هذا الحل تحسَّس صانع القرار موطئ قدمه عند حافة الهاوية بعد أن بلغ حجم الدَّين العام المحلى فى نهاية يونيو الماضى 1.8 تريليون جنيه تمثل نحو 90.5 % من الناتج المحلى الإجمالى وهو مستوى بالغ الحرج يتعذر التعايش معه لأن الحدود الآمنة عالميًا للاستدانة المحلية هى وصول الدَّين العام إلى 60 % كحد أقصى من الناتج المحلى، وبالتالى يظهر حجم المخاطرة مع الفارق القائم الآن بين الحدَّين.
لهذا يبدو طريق الاقتراض من السوق المحلية على الأقل فى صورته التقليدية المُعتمدة على طرح وزارة المالية الأذون والسندات للأفراد والمؤسسات الراغبة فى هذا الاستثمار مسدودًا، ولا ينبغى اللجوء إليه درءًا للمخاطر المُرتفعة، ناهيك عن ارتفاع تكلفة خدمة الاستدانة المحلية التى ارتفعت مدفوعات الفوائد عنها فى ختام العام المالى 2013/2014 إلى 168 مليار جنيه.
ليس هذا فحسب، بل إن هذا الوضع السلبى للدَّين العام يُلقى بظلال من الشك حول الجدارة الائتمانية للدولة ويُهدّد بقطع طريق الاستدانة الخارجية عليها أيضًا لأن أحد أهم المؤشرات التى تنظر إليها جهات التمويل الخارجية هى نسبة الدَّين العام إلى الناتج المحلي.. ومن ثم لا مجال للاعتماد على الاستدانة المحلية فى توفير نصيب ما من المليارات التى تحدّث عنها “السيسي”.
* الاستدانة من الخارج مُجازفة
وجهٌ آخر للتمويل يتمثل فى اللجوء للاستدانة من الخارج وهو ما يعنى أن يكون التمويل بالنقد الأجنبى سواء عن طريق صندوق النقد الدولى وهو خيار كانت تواجهه الدولة قبل الاستعانة بالمساعدات والقروض العربية العامين الماضى والجارى أو تسوق التمويل والقروض عن طريق السوق الدولية عبر طرح سندات مسحوبة على الحكومة وهو ما يحتاج إلى جدارة ائتمانية للدولة تقلص من سعر العائد الذى يمثل تكلفة لهذه الأموال المطلوب اقتراضها يحصل عليه المستثمر كتعويض عن فترة الاستدانة وحتى يستعيد أمواله، وفى كلتا الحالتين سواء اللجوء إلى مؤسسات التمويل الدولية أو السوق الحرة يلزم الحكومة مؤشرًا لتقدير سعر العائد ومدى مُلاءمته لطموح المستثمرين الذين قد يرغبون فى الاستثمار بتلك السندات ومن جهة أخرى قبول توصيات صندوق النقد فى مجالى الإصلاح المالى والنقدى وكلاهما شرطان ليس من اليسير الانصياع لهما لأن اشتراطات صندوق النقد قد لا تأخذ بعين الاعتبار الآثار والتكلفة الاجتماعية، بينما غياب مؤشر التسعير السوقى أو الـ bench mark يؤثر سلبًا على التكلفة الاقتصادية والتى تمثل الأساس فى المُفاضلة دائمًا بين اللجوء إلى الاستدانة المحلية أو اللجوء إلى الاستدانة الخارجية.
كما أن الاقتراض من الخارج بهدف التمويل هو كذلك عبء على الموازنة العامة للدولة ويصب فى نهاية المطاف داخل وعاء الدَّين العام للدولة، وبالتالى فهو لا يُفضل الاستدانة من الداخل كخيار على أساس التكلفة التى يُمثلها سعر الفائدة على الأموال المقترضة، فإذا لم يكن هذا السعر يصنع فارقًا مهمًا يُميز الاقتراض من الخارج فإن المأزق يبقى كما هو.
وفيما يتعلق بالعائق المنهجى الذى يُمثله عدم وجود مؤشر تسعير سوقى لسعر العائد المُرجّح عن طرح سندات مصرية فى الأسواق الخارجية، فإن هذا العائق يحتاج إلى مُبادرات لاختبار المستوى الواقعى لتقدير سعر المخاطر الحالية للاستثمار فى السوق المحلية ومنح عائد مُجزٍ للمُستثمرين فى تلك السندات عند طرحها لحثهم على الاكتتاب، وبما أن هذا لم يحدث حتى الآن فمن الصعب أن يكون، هذا هو الخيار الأول عند التفكير فى تدبير حجم الأموال التى تحدَّث عنها “السيسي”.
وإذا كان إجمالى الدَّين الخارجى فى نهاية العام المالى 2013/2014 قد بلغ نحو 46.1 مليار دولار “تمثل نحو 323 مليار جنيه” فإن التوسّع فى الاستدانة الخارجية
دون تقدير للعواقب -وفى ظل الاعتبارات السابقة- يمثل مُجازفة غير مطلوبة فى هذا التوقيت ولا تفى بالاحتياجات التى تم الإعلان عنها.
* رهان الحكومة الصعب
رغم صعوبة اللجوء إلى كلا الخيارين سواء الاستدانة من الداخل أو الاستدانة من الخارج إلا أن الحكومة تواجه التزامات عاجلة عليها تدبير موارد لمُقابلتها والإنفاق عليها، وفى مُقدمتها الإنفاق العام الاستثمارى الذى تعتمد عليه فى توليد فرص العمل الجديدة وخصَّصت له فى الموازنة الجارية نحو 58 مليار جنيه من الإيرادات العامة والاستدانة المحلية وهو أقصى ما استطاعت الوصول إليه فى ظل عجز كلى بالموازنة العامة قدر بنحو 255.4 مليار جنيه تمثل حوالى 12.8% من الناتج المحلى الإجمالى فى الوقت الذى تحتاج فيه إلى نحو 280 مليار جنيه استثمارات خلال هذه الموازنة عهدت إلى القطاع الخاص مهمة تدبيرها.. وهنا تحديدًا تبرز دقة الوضع الذى تواجهه الحكومة فى هذه المرحلة.
فحكومة المهندس إبراهيم محلب يتوجَّب عليها توفير هذا الفارق إذا ما عجز القطاع الخاص سواء المحلى أو الأجنبى عن الوفاء به لضمان بقاء عجز الموازنة فى الحدود التى ارتضتها والقابلة للسيطرة عليها، ولهذا فهى تخوض رهانًا بالغ الصعوبة يتمثل فى حث القطاع الخاص -أيًا كانت هويته- على المشاركة بتلك الحصة من ضخ الاستثمارات إلى السوق وإلا كان عليها تدبير بديل غير الاستدانة المحلية التى بلغت تكلفة خدمتها فى الموازنة العامة 2013/2014 نحو 168 مليار جنيه نتيجة التوسع فى الاقتراض من السوق المحلية من جهة، وارتفاع متوسط سعر العائد على أذون الخزانة التى تمثل الأداة الوسيطة لهذه الاستدانة ليصل من 11.5% إلى 12.5%.
ولهذا تتجه الحكومة إلى أوجه تمويل بديلة مثل فتح باب الاكتتابات العامة أو طرح أدوات استثمار جديدة مثل شهادات استثمار قناة السويس الجديدة التى ساهمت فى توفير حصيلة ضخمة من الأموال التى تمت استدانتها من السوق المحلية دون إثقال كاهل الموازنة العامة لأنها لم تحتسب ضمن هيكل الدَّين العام وتهدف الحكومة من وراء ذلك إلى إنعاش السوق وتشجيع القطاع الخاص المحلى على استئناف نشاطه وضخ استثماراته.
وواقع الحال أن الحكومة لا تملك فى هذا الرهان سوى تهيئة المناخ الجاذب للاستثمار من خلال التشريعات والإجراءات المُؤهلة لتلك البيئة والعمل على إصلاح وتيرة الأداء الاقتصادى العام بما يؤثر إيجابًا على مؤشرات أداء الاقتصاد الكلى لينعكس ذلك بدوره على قراءة المؤسسات الدولية لتلك المؤشرات وبصفة خاصة مؤسسات التصنيف الدولية التى عدلت مؤخرًا من تقييمها للجدارة الائتمانية للدولة كما فعلت مؤسسة "فيتش” التى رصدت تحسنًا ملحوظًا فى أداء الاقتصاد دفعها إلى تعديل تقييمها بالنسبة لائتمان الدولة فى الأجل الطويل فيما يتعلق بالاقتراض بالعُملتين الأجنبية والمحلية إلى “b” مع الإبقاء على النظرة المستقبلية المستقرة للاقتصاد، لافتة إلى أن الحكومة استطاعت أن توجّه معدلات النمو إلى الارتفاع لـ 6.8% فى الربع الثالث من 2014 بعد سلسلة من الإصلاحات التى أقدمت عليها وهو غاية ما يمكن أن تقدمه الحكومة فى الرهان على دور أكبر للقطاع الخاص فى ضخ الاستثمارات اللازمة لتحفيز النمو ليبقى الجرس مُعلقًا فى نهاية المطاف برقبة هذا القطاع.
* الخيار الأخير
كما ظهر لنا من استعراض أوجه التمويل المختلفة على الصعيدين الداخلى والخارجى لا يبقى أمام الحكومة إلا الاعتماد على القطاع الخاص سواء الداخلى أو الخارجى لأنه الطرف الأكثر فعالية فى معادلة التمويل بفضل المرونة التى يتمتع بها فى توفير الأموال وتوجيهها متى توافرت الجدوى الاقتصادية والمناخ الجاذب للاستثمار.. لهذا فإن المليارات الأربعين اللازمة لحزمة المشروعات التى تعتزم الحكومة طرحها كما ذكر "السيسي" مقصدها الأول لابد أن يكون القطاع الخاص بصرف النظر عن هويته لأن إقبال القطاع الخاص الأجنبى على الاستثمار فى سوق محلية ليس تضييقًا على مستثمرى هذه السوق طالما أن الفرص الاستثمارية تزيد على قدرتهم الاستيعابية لتصبح المشاركة الاستثمارية الأجنبية ميزة ينبغى وضعها فى الحسبان.
الاستثمار الأجنبى يتمتع بميزة نسبية فى الحالة المصرية الراهنة، فجهات الاستثمار المحلية سواء مؤسسات أو أفرادًا استقطبها مُؤخرًا التمويل المُوجَّه إلى قناة السويس الجديدة وعادة بعد مشاركة المستثمرين فى الطروحات الضخمة تحدث حالة من الفتور النسبى تحتاج إلى محفز خارجى يُعيد الشهية للمستثمرين، وبالتالى فإن
الاستثمار الأجنبى يستطيع أن يحقق هذا التحفيز ويستفيد من الدخول المبكر لسوق واعدة.
وإذا كان الأمر كذلك فإن الحصول على المليارات اللازمة لتمويل مشروعات الحكومة التى تزيد على قدرة الإنفاق العام الاستثمارى يبقى مرهونًا بالدور الذى يمكن أن تقوم به الحكومة لتحفيز هذا القطاع، وهو ما يجب أن تستوعبه على نحو جيد، خاصة أنها تستعد لطرح مشروع قانون الاستثمار المُوحَّد للمناقشة بما يتضمنه من حوافز للاستثمار، كما أنها تملك فرصة مهمة لتسويق مشروعاتها والحصول على استثمارات ضخمة خلال القمة الاقتصادية التى تُعقد فى مارس المقبل لدعم الاقتصاد الوطني.
وينبغى أن يكون ذلك فى صدارة اهتمامات الحكومة وأن تسعى لتحقيقه منذ الآن.