تواجه سوق الصرف فى هذه الفترة تحديًا بالغ الخطورة وتخوض رهانًا صعبًا من أجل الاستقرار النقدي فى معركة “تكسير عظام” بين الجنيه والدولار الأمريكى الفوز فيها ستكون تكلفته باهظة، بينما رفاهية "الخسارة" التى تبقى تبعاتها هى الأفدح فى تاريخ العلاقة بين العُملتين.
سيكون على صانع القرار فيها القبول بفقدان نسبى لقيمة العملة المحلية وتحمل تكلفة أكبر لعجز الميزان التجارى وكذلك السماح بارتفاع نسبى للأسعار ومعدلات التضخم وتكلفة الاقتراض من أجل سوق نقدية أكثر جذبًا للاستثمارات الأجنبية كما حدث فى منتصف العقد الماضى بدءًا من عام 2004 عندما واجهت السوق تحديًا مُماثلاً ونجحت فى اجتيازه بكفاءة.
التحدّى هذه المرة أعنف أمام البنك المركزى تحت قيادة هشام رامز بضغط من عوامل عديدة منها ضعف التدفقات الأجنبية الموجَّهة إلى الاستثمار المباشر وارتفاع معدلات عجز الموازنة عن النسبة المقبولة عالميًا، فضلاً عن ارتفاع تكلفة الاستدانة المحلية وارتفاعها أيضًا فوق المعدلات العالمية بأكثر من 30%، ومع ذلك فلا مناص من خوض هذه المعركة التى دخلها البنك المركزى مع بدايات العام الجديد وغير بعيد عن ناظريه ما يُعلّق عليه الاقتصاد الوطنى من آمال بانعقاد القمة الاقتصادية بشرم الشيخ منتصف الشهر المقبل باعتبارها نقطة تحوّل مُنتظرة فى تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى الداخل ومن ثم موازين القوة بين السوق المصرفية المُستقبلة لتلك التدفقات وسوق الصرف الموازية.
“المركزي” يسعى إلى تهيئة سوق صرف أكثر استقرارًا لاستقبال تلك التدفقات وفى مرحلة تالية وبفارق زمنى محدود الاستفادة منها فى الانقضاض على سوق الصرف الموازية واستعادة السيطرة على سعر صرف الدولار أمام الجنيه.. كيف سيفعل “المركزي” هذا؟! وكيف سيُدير مراحل هذه المُواجهة؟! .. وما هى فرص النجاح المُتوافرة أمامه؟!.. هذا ما سنحاول استقراءه فى السطور التالية.
· التعايش المستحيل
اعتمد البنك المركزى قرابة العام على استخدام الزيادة الطارئة على أرصدة الاحتياطيات الدولية لديه بفعل الودائع والمساعدات العربية فى إحداث توازن صعب فى سعر صرف الدولار مقابل الجنيه على أمل زيادة التدفقات الرأسمالية إلى الداخل دون تضحيات باهظة التكلفة إلا أن تأخر نمو هذه التدفقات بوتيرة مقبولة ساعد السوق الموازية للصرف الأجنبى على اكتساب أرض جديدة بمرور الوقت كانت قد فقدتها خلال الفترة من 2005 وحتى 2009، ولهذا وجد “المركزي” -وبعد حصوله على ضوء أخضر من الحكومة- أن عليه أن يُغير من نمط المُواجهة مع تلك السوق ليتحوّل من الاستيعاب إلى إعلان الحرب بعد ما أيقن ومعه الحكومة أن التعايش مع تمدّد هذه السوق وازدياد نفوذها أضحى مستحيلاً فى الفترة المقبلة ليبدأ تحريك سعر الصرف الذى كان يدور حول متوسط صرف للدولار الأمريكى 7.17 جنيه بيعًا و7.13 جنيه شراء حتى أوائل شهر يناير الماضى داخل السوق المصرفية ويزيد على ذلك نحو ثلاثين قرشًا بالسوق الموازية فترك “المركزي” السعر بالبنوك يرتفع إلى 7.28 جنيه يوم 20 يناير الماضى بمقدار 10 قروض دفعة واحدة ثم توالت الارتفاعات حتى مطلع شهر فبراير الحالى ليصل سعر صرف الدولار إلى 7.63 جنيه بزيادة نحو 45 قرشًا خلال مدى زمنى لا يتجاوز الأسبوعين.
وبدأت تظهر نوايا “المركزي” من هذا التوجه الذى أعطى الانطباع بأن الأخير لا يعتزم التدخل للحيلولة دون هذا الارتفاع، وبدت الرسالة التى استهدف وصولها إلى سوق الصرف الموازية قاطعة الدلالة بأن “المركزي” يسعى إلى استعادة مركز ثقل تبادل النقد الأجنبى إلى داخل الجهاز المصرفى عبر اقتراب الفروق السعرية فيما بين الجانبين حيث بدأ الفارق يضيق إلى 20 قرشًا لجذب فائض المعروض النقدى من العملة الأمريكية إلى داخل السوق المصرفية تدريجيًا.
وإذا كان الجنيه مع هذه الزيادة فى سعر صرف الدولار قد فقد أكثر من 6% من قيمته دون ان يتم القضاء على السوق الموازية للصرف الأجنبى فمازال هذا الوضع لا يبعث على القلق بالقدر الذى يمكن أن تصير إليه السوق لو ان “المركزي” تمسك بالدفاع عن الجنيه واستنزاف الاحتياطى الموجود لديه بينما مركز الثقل، ممثلاً فى عرض النصيب الأكبر من التعاملات بالنقد الأجنبى لدى السوق الموازية لأن هذا الوضع يعنى استنزاف الاحتياطى استنزافًا مجانيًا.
ومع ذلك فإن استحالة التعايش مع الوضع السابق لا تعنى أيضًا أن يكون تراجع الجنيه أمام الدولار مجانيًا ولهذا فإن “المركزي” يعرف وحده توقيت التدخل الفعّال لتحويل دفة السوق واستعادة زمام السيطرة عليه.
· الضربة الموجعة
يعرف “المركزي” بقيادة هشام رامز أن اللحظة الحاسمة للتدخل والتى تجعل منه ضربة موجعة لهذا النشاط الطارد للاستثمارات عندما يتصاعد الصراع على قوى الطلب بين السوقين الرسمية والموازية إلى الحد الذى تسعى فيه السوق الأخيرة إلى توسيع الفارق بينما تسعى الأولى لتضييقه وفى الوقت الذى تتحوّل فيه السوق الموازية إلى تقديم عروض شراء مرتفعة للدولار لتعود فتبيعه بهامش أكبر حتى يقترب كثيرًا الفارق بين سعر الشراء والبيع عندها تأتى اللحظة المواتية بإتاحة البنك المركزى لكميات استثنائية من المعروض الدولارى بالسوق الرسمية عبر البنوك لتفاجأ السوق الموازية بأن عليها التصرف فيما هو فى حوزتها من الدولار دون اشتراط لفروق كبيرة طمعًا فى الإفلات من هذه الخسارة عندها يبدأ سعر صرف الدولار فى التراجع والتحوّل نحو نقطة ثبات مقبولة.
وما حدث عامى 2004 و2005 يؤكد أن هذه الضربة الموجعة باتت قريبة، خاصة إذا علمنا أن كلاً من المملكة العربية السعودية ودولتى الإمارات والكويت تعتزم تقديم قرابة العشرة مليارات دولار إلى مصر فى غضون الفترة القريبة المقبلة وسواء كان ذلك دفعة واحدة أو عبر دفعات فإن قدرة “المركزي” على توجيه مثل هذه الضربة تتزايد وهو ما يُدركه الأخير ولهذا اختار التصعيد فى هذه الفترة كما أنه يراهن كذلك على تدفقات استثمارية أخرى تأتى مع انعقاد القمة الاقتصادية بشرم الشيخ ولهذا على السوق الموازية أن تشعر بكثير من القلق وأن تدرك أنه مع كل تصعيد أكبر ستكون الضربة التى يوجهها “المركزي” أكثر إيلامًا.
ومن جانبه يُدرك “المركزي” أن ما يقوم به فى هذا الصدد عملية تصحيح لمسار سوق الصرف بعد الأوضاع السلبية التى أثرت على أداء ميزان المدفوعات وتراجع الجنيه فى علاقاته بالعُملات الدولية الرئيسية نتيجة عجز ميزانى المعاملات الجارية والتبادل التجارى، وبالتالى أصبح التصحيح ضروريًا حتى يعكس الوضع الحقيقى للجنيه وهو ما كانت تطالب به مؤسسات التمويل الدولية وفى مقدمتها صندوق النقد الدولى، خاصة أن سعر صرف الدولار الأمريكى والعُملات الدولية الرئيسية الأخرى غالبًا ما يعود إلى الاستقرار بعد هذا التصحيح بل ويعود الوزن النسبى للجنيه للتحسن عندما يتراجع عجز ميزان المعاملات الجارية ويعود الحساب الرأسمالى إلى تحقيق صافى تدفقات أكبر إلى الداخل.. ولهذا فهو يضع فى اعتباره أنه إذا سمح بتراجع قد يصل إلى 10% من سعر الجنيه قبل 20 يناير، فإنه قد يعود إلى تضييق هذا الهامش بعد تحقيق الاستقرار النقدى وبالتالى تزداد ثقته فى توجيه الضربة الموجعة إلى سوق الصرف الموازية شريطة ألا تخذله التدفقات الرأسمالية المُنتظرة.
· التكلفة والعائد
لأى إجراء أو فعل، ثمن مادى أو معنوى لا بد من أدائه فى مقابل فوائد ومصالح يفترض أن تترتب على القيام به، وبالتالى عندما وضع البنك المركزى فى اعتباره الإقدام على هذه الخطوة كان يعلم سلفاً أن ثمة ثمنًا سيؤديه وهذا الثمن أقل من تكلفة الانتظار وأقل كذلك من العائد الذى سيحققه جراء الإقدام عليها وهى الحسابات التى تقرر مدى نجاح هذا الإجراء والاستفادة منه.
بادئ ذى بدء غالبًا ما تحتاج هذه الخطوة التى أقدم عليها البنك المركزى إلى أجندة واضحة الأهداف لاختصار الفترة الزمنية التى تترك خلالها السوق لآليات العرض والطلب على نحو مطلق فيتحدّد سعر الصرف على أساس عامل الندرة أو الوفرة دون سقف فى البداية لهذا فإن أقصى ثمن أو تكلفة لهذا الإجراء يكون فى هذه الفترة وطالما أن اقتصاد الدولة لم ينهار ونظامها النقدى يتمتع بالقوة والمرونة فإن سعر الصرف يعاود الارتداد فى اتجاه سعر عادل للعملة الوطنية مقابل العملة الأجنبية ومن ثم تتمثل الخسائر أو التكلفة المنتظرة لترك سعر صرف الدولار لآليات العرض والطلب فى الارتفاع النسبى لقيمة عجز الميزان التجارى، وكذلك توقع حدوث ارتفاع موازٍ فى معدلات التضخم الشهرى، إضافة إلى بعض أعراض “الدولرة” المتمثلة فى تنامى الميل النسبى للادخار نحو العُملة الأمريكية وإلى حين تحقق الاستقرار النقدي.
فيما يتعلق بعجز الميزان التجارى والفارق بين تكلفة الصادرات والواردات تشير التقديرات إلى أنه سوف يزيد بمقدار يتراوح بين 6.5 و10% وهى النسبة التى ينتظر أن تتحرك بينها الزيادة فى سعر صرف الدولار أمام الجنيه ما يعنى أن قيمة العجز البالغ فى نهاية العام المالى 2013/2014 نحو 33.7 مليار دولار بافتراض ثبات نسبة العجز بين الصادرات والواردات خلال العام المالى الجارى سوف يتراوح بين 1.98 مليار دولار و3.30 مليار دولار فى أقصى تقدير على فرض امتداد تفاعلات هذه الفترة إلى نهاية العام المالى، وبالرغم من أن أى زيادة فى هذا العجز تمثل عبثًا على الاقتصاد الوطنى إلا أن هذه الزيادة يمكن لـ “المركزي” أن يستوعبها كما سنرى.
الأمر لا يختلف كثيرًا على صعيد معدلات التضخم التى لابد أن ترتفع كعرض طبيعى لانخفاض قيمة الجنيه وارتفاع أسعار السلع والخدمات كنتيجة مباشرة، ولكن ارتفاع معدل التضخم الشهرى لشهرين أو أكثر لا يمثل مصدر إزعاج كبيرًا فى ظل قدرة “المركزي” على إدارة المعروض النقدى بكفاءة وسعيه إلى الحد من الآثار التضخمية التى تبقى عارضة طالما لم تترافق مع اتجاهات “ركودية” للسوق وهو ما تسعى الحكومة إلى تلافيه عبر العديد من الحزم التحفيزية التى أعلنت عنها فى السابق وينتظر أن تعلن عن المزيد منها.
أما أعراض “الدولرة” فهى غالبًا أعراض انسحابية يضعف تأثيرها تدريجيًا بمجرد عودة الاستقرار النقدى حيث تعود القاعدة العريضة من المدخرين إلى الجنيه كمخزن تقليدى للقيمة.
هذا بالنسبة لتكلفة إقدام “المركزي” على هذه الخطوة بينما العائد يتمثل فى كون الاستقرار النقدى الذى يمثل الأساس الضرورى لجذب الاستثمارات الأجنبية التى تخشى فى حالات غياب هذا الاستقرار من تآكل أرباحها خلال تقلبات سعر الصرف إذا تحقق سيكون كفيلاً بمضاعفة تدفق هذه الاستثمارات إلى الداخل لتصل من 4 مليارات دولار فى نهاية العام المالى السابق إلى نحو 10 مليارات خلال نهاية العام الجارى وحده وترتفع إلى أكثر من ذلك فى حال حقق مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى الأهداف المرجوة منه وبالتالى تحقق هذا الهدف يتجاوز تكلفة هذا الإجراء فى جوانبه المختلفة.
جانب آخر بالغ الأهمية فى استهداف جذب الاستثمارات الأجنبية يتعلق بزيادة عرض فرص العمل داخل السوق والتى تحتاج الحكومة لإتاحتها مزيدًا من الإنفاق العام الاستثمارى وبالتالى تعمل الاستثمارات الأجنبية على تعويضها وتخفيف عبء هذا الإنفاق عن كاهل الحكومة، فضلاً عن كون زيادة التدفقات الاستثمارية فى حد ذاته يعمل على تعزيز قوة الجنيه فى مواجهة الدولار والعُملات الرئيسية الأخرى فى السوق وكلما زادت قوة الجنيه انعكس ذلك إيجابًا على معدلات التضخم ليس فى الأجل القصير كما هو أثر تحرير أسعار الصرف، ولكن فى الأجلين المتوسط والطويل وهذا أكثر جدوى.
عامل آخر يعزز من جملة عوائد هذا الإجراء يظهر جلياً متى استعاد الجنيه شيئًا فشيئا سعره العادل أمام الدولار حيث إن هذا من شأنه أن يرفع معدلات الادخار القومى التى هى حالياً فى أدنى مستوياتها بعد أن اقتربت وفقا لآخر رصد من البنك المركزى من 9.4% من الناتج المحلى بينما يفترض أن تزيد إلى نحو 25% لكى تصبح فى وضع إيجابى يساعد على نمو الاقتصاد الوطنى من خلال زيادة معدلات التمويل والإقراض التى ترتبط ارتباطًا طرديًا بنمو تلك المعدلات التى يفترض أن يصل إليها الادخار الوطنى، وبطبيعة الحال فإن ذلك يؤثر إيجابًا بدوره على انسحاب أعراض “الدولرة” من السوق.
هكذا يظهر أن البنك المركزى أجاد حساب المكاسب والخسائر من الإقدام على تلك الخطوة التى اتخذها.
· السعر العادل
والسؤال الذى دائمًا ما يفرض نفسه فى مواجهات سوق الصرف هو: متى تنتهى المُواجهة بين عُملتين فى المُنافسة على سعر صرف أعلى؟ وبالتالى ما هو السعر العادل للدولار الأمريكى فى مواجهة الجنيه المصرى والذى يحسم تلك المعركة؟!
هناك بالطبع مًحددات موضوعية فى مُقدمتها عامل الوفرة أو الندرة فى كمية صرف عُملة فى مواجهة أخرى داخل سوق ما، بمعنى أنه متى تحقق أن كل طلب على عُملة ما، واجهه عرض مُكافئ له، باتت عملية المضاربة السعرية بالغة الصعوبة، ومال سعر صرف هذه العملة فى مواجهة العملة الوطنية إلى الاستقرار وهو ما يسعى وراؤه حاليًا البنك “المركزي” ويفترض أن يكون قادرًا عليه بحلول نهاية شهر مارس المقبل.
وجه آخر للوفرة أو الندرة يؤِثر فى حسم تلك المعركة هو المرتبط بمركز الثقل فى عرض العُملة الأجنبية بالسوق المحلية، فكلما كانت الوفرة داخل السوق المصرفية، أصبحت السيطرة أكبر على المضاربات والعكس صحيح، تقل القدرة على مُواجهة المُضاربات كلما تزايد نصيب أطراف أخرى من تداول النقد الأجنبى وإذا أمعنا النظر سنجد أن “المركزين” يتحرك على هذين المحورين بحثًا على تلك السيطرة.
وإذا ما تحقق ذلك ستكون المُواجهة قد حُسمت بين الجنيه والدولار فى هذه المرحلة وتكون القوة الشرائية بين العُملتين هى عنصر الترجيح الأخير وهو ما يتحقق عبر تعزيز أكبر لصادرات السلع والخدمات الوطنية وتأسيسًا على ما سبق يمكن أن يكون السعر العادل للدولار مقابل الجنيه عند حدود تتراوح بين 7.60 وحتى 7.80 جنيه.. ولعل هذا يظهر قريبًا لمتابعى سوق الصرف ليسدل الستار على واحدة من أهم مواجهات الجنيه المصرى والدولار الأمريكى.
|