قلت فى مقال سابق إن البنوك تستطيع أن تلعب دوراً مهماً فى خلق الطلب الفعال الذى يمثل مقدمة وشرطاً أساسياً لاستئناف معدلات النمو المرتفعة بعد أن كاد الاقتصاد الوطنى يصاب بالشلل خلال فترة وجيزة, ولم يعد ترفاً أن تتحرك قوى عديدة إلى المسارعة فى جهود الإنقاذ, ولعل هذه القوى تدرك مقدار الأهمية التى يعنيها أن تأخذ البنوك زمام المبادرة بإعادة البناء, وأن تقوم بدورها الوظيفى الذى تناولناه بالشرح والإيضاح لتحقيق شعار "مصر أولاً", وسيكون من المفيد فى هذا الإطار الحديث عما يمكن أن يقود إليه خلق الطلب الفعال من استعادة للثقة فى دور رؤوس الأموال داخل السوق, وبالتالى زيادة تدفق الاستثمارات المحلية والأجنبية إليها.
ليس خلق الطلب الفعال بالهدف اليسيير الذى يمكن أن يتحقق بقرارات إدارية, وإنما عبر إجراءات عديدة على الأرض من شأنها أن تفعل ذلك, وكما أشرنا فبعضها سيقوم به البنك المركزى فيما ستقوم البنوك وجهود المجتمع المدنى بالبعض الآخر, ولهذا لابد أن تبدأ هذه التحركات مبكراً قدر الإمكان حتى يشعر أصحاب الأعمال والمستثمرين فى الداخل والخارج بالثقة والإطمئنان لتحريك أموالهم والدفع بها فى مشروعات جديدة طالما أن هناك طلب قوى وفعال يستوعب مخرجاتها.
ما الذى يمكن أن يحققه ذلك؟! الثقة فى عالم الاستثمار تساوى المبادرة وهو ما يعنى انتعاش النشاط الاقتصادى فى نهاية المطاف, وهذا تحديداً ما يحققه خلق الطلب الفعال, فالسوق التى تملك طلباً مماثلاً هى سوق تتمتع بالحيوية, وبالتالى تثق الاستثمارات المحلية والأجنبية فى النشاط داخلها, وإذا حدث ذلك هناك عامل بالغ الأهمية يتحقق, هو ما يطلق عليه "الجدارة الائتمانية" التى تحصل عليها الدول مثل الأفراد من مؤسسات التقييم العالمية, فتصبح هذه الدولة أقل مخاطر من تلك عند الاستثمار بها, ومن ثم تقل تكلفة جذب الاستثمار إليها لأنها لا تحتاج إلى حوافز مرهقة تؤثر على سعر الفائدة فى حال الإقتراض من الخارج.. "الجدارة الائتمانية" هى أحد المؤشرات التى تحرص الدولة على تحسينها لكونها تمثل عاملاً فارقاً فى تدفق الاستثمارات والتمويل, ولعل هذا ما يخشى فى حالات الاضطرابات والثورات من آثاره العكسية على تدفق الاستثمار.
يمكن ملاحظة أثر ذلك عبر المبادرة التى قام بها بنك الاستثمار جى بى مورجان عندما رفع تصنيف الجدارة الائتمانية للديون السيادية المصرفية من "سلبي" إلى "مستقر" على إثر تدخل البنك المركزى وضمانه لجميع التعاملات التى تمت على أوراق الدين الحكومية قبل ثورة "25 يناير" وحلت آجالها أثناء الثورة أو بعد سقوط النظام السابق, مثل هذه التصنيفات هى التى تقود إلى زيادة تدفق الاستثمار الأجنبى بوجه خاص إلى الداخل ومن ثم تحقيق الانتعاش الاقتصادى المطلوب.
ليس هذا فقط ما يحققه خلق الطلب الفعال, وإنما هناك بعداً إضافياً لهذا الوضع هو التأثير الإيجابى على تركيبة "الرافعة المالية"للمشروعت التى يتشارك فيها التمويل الذاتى لأصحاب رؤوس الأموال مع التمويل المصرفى الذى يقدم لبدء نشاط جديد داخل السوق, حيث تزيد حصة النوع الأخير من التمويل كلما تزايدت مخاطر النشاط, وكانت الحاجة أكبر لتشجيع ومساندة مبادرات القطاع الخاص, ويحدث العكس كلما قلت المخاطر حيث يقبل أصحاب رؤوس الأموال على الاستثمار بالرغم من أنه فى حالات استثنائية يحدث أن يزيد أى طرف من أطراف الرافعة المالية مساهمته رغم ارتفع المخاطر لرغبته فى الاستحواذ على النصيب الأكبر من العائد المرتفع.
قد لا يقدر الكثيرون أهمية إيجاد هذا الطلب واستعادة الثقة والاستقرار داخل السوق المحلية, ولكن رغبة بعض المستثمرين السعوديين اليوم _ الأحد _ فى مراجعة وضع استثماراتهم فى مصر ودراسة الموقف بشأن سحبها من عدمه فى الوقت الذى أبدت فيه حكومتهم قبل أكثر من أسبوع استعدادها لضخ استثمارات إضافية, تشير إلى أهمية المؤشرات الإيجابية التى تعمل بكيفية واضحة على زيادة فاعلية الاستثمارات المحلية وزيادة تدفق الاستثمارات الأجنبية.
النهضة الاقتصادية هى طريق الثورة ومستقبلها فى مواجهة جميع محاولات قطع الطريق عليها.