أصدر البنك الدولى تقريرًا جديدًا تحت عنوان: "التنمية فى العالم 2011.. الصراع والأمن والتنمية" جاء بمثابة تحليل لما يحدث الآن فى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من اضطرابات، كما عبر هذا التقرير عن تغير جذرى فى وجهة النظر التى طالما تبنتها المؤسسات الدولية حول العلاقة بين رفع معدلات النمو الاقتصادى وأثرها على خفض معدلات الفقر.
وأكد التقرير تحقيق معدلات النمو الاقتصادى المرتفعة كمتغير أساسى تعجز بمفردها عن تقليص معدلات الفقر والبطالة اللذين بدورهما يولدان الصراع والعنف، وأن قدرة الاقتصاد على توليد الوظائف وتوفير الامن وتحقيق العدل والعدالة فى التوزيع لا رفع الناتج المحلى الإجمالى هى شروط أساسية لكسر الدورات المتكررة من العنف السياسى والجنائى.
وضرب التقرير مثالاً على ذلك بحالتى كل من مصر وتونس حيث بلغت معدلات النمو 5% فى المتوسط أو أعلى سنويًا وهو ما يكفى لتقليص الفقر لكن هذه المعدلات لم تصب فى مصلحة السواد الاعظم من الشرائح الاجتماعية الاكثر فقرا كما ان الحكومات لم تنجح فى معالجة القمع والفساد والبطالة المرتفعة وهو ما أفضى الى احتجاجات أطاحت برئيسى البلدين لتضرب الاضطرابات الاردن واليمن وسوريا والبحرين الى ليبيا.
واكد التقرير ان البُلدان التى تتسم بالضعف فى فعالية الحكومة وسيادة القانون والحد من الفساد تزيد بها مخاطر نشوب حرب أهلية بنسبة 30% الى 45% كما تزيد بشدة مخاطر التطرف فى العنف الاجرامى عن غيرها من البُلدان النامية.. وتظهر دراسات أجريت فى الدول المتأثرة بصراعات أن البطالة كانت السبب الرئيسى وراء انضمام الناس الى العصابات وحركات التمرد فى حين كان الفساد والظلم والاقصاء هى المحركات الرئيسية للعنف.
وكشف التقرير أنه فى الدول التى اجتازت مرحلة من الصراع والعنف فان تركيز الحكومات كان ينصب على اصلاحات مبكرة فى الامن والعدل والوظائف واشار الى انه فى غياب أحد تلك العناصر كانت المحاولات الاصلاحية غالبا ما تتعثر واعطى التقرير فترة زمنية تقدر بنحو 15 الى 30 عاما لبناء دول ومؤسسات أقوى فى البلدان الخارجة من صراعات.
وأكد التقرير على ما يتركه استمرار الصراعات من آثار مدمرة على آفاق التنمية فى أى بلد أو منطقة ـ لافتة النظر إلى أن احتمالات السقوط فى براثن الفقر تزيد بواقع الضعف بالنسبة لنحو 1.5 مليار شخص يعيشون فى مناطق متأثرة بالصراعات. وحتى الآن، لم يفلح أى بلد منخفض الدخل من البلدان الهشة أو المتأثرة بالصراعات بعد فى تحقيق أى من الأهداف الإنمائية للألفية، وتزيد معدلات الفقر بأكثر من 20% فى البلدان المتأثرة بالصراعات مقارنة بالبلدان الأخرى.
وقال روبرت زوليك، رئيس البنك الدولى "للاستثمار فى توفير أمن المواطن والعدالة وفرص العمل أهمية بالغة فى تقليص العنف".. وأضاف: "لو أردنا كسر دوامات العنف المفرغة وتقليل الضغوط التى تحركها، فلابد للبلدان أن تنشئ مؤسسات وطنية تتمتع بالمزيد من الشرعية والخضوع للمساءلة، وتكون قادرة على أن توفر أمن المواطن والعدالة وفرص العمل".
وخلص التقرير إلى أنه فى الدول التى تمر بمرحلة تحوّل من الصراع لا تستطيع الحكومات حل المشاكل وحدها بل ينبغى أن تعقد تحالفات مع المجتمع المدنى المجموعات الوطنية السياسية المحلية والتجارية والاستهلاكية وغيرها لبناء الدعم، كما ينبغى على الزعماء تحقيق نجاحين أو ثلاثة نجاحات سريعة تولد الثقة لدى المواطنين ويبحث التقرير عن أمثلة فى بلدان مثل هايتى وجنوب افريقيا وأيرلندا الشمالية ورواندا وكمبوديا واندونيسيا وأفغانستان وكولومبيا وليبيريا نالت كفايتها من الصراعات والعنف.
سارة كليف، المديرة المشاركة الأخرى والممثلة الخاصة لفريق إعداد تقرير عن التنمية فى العالم، فقالت: "إن القادة الوطنيين والعالميين بحاجة إلى إيجاد سبل أفضل للاستجابة لنداءات شعوبهم بتوفير فرص العمل والعدالة، من شمال أفريقيا إلى كوت ديفوار إلى هايتي؛ فالنظام الدولى بحاجة إلى إعادة تركيز المساعدة على توفير أمن المواطن والعدالة وفرص العمل فى أشد الأوضاع هشاشة. وهذا سوف يتطلب إصلاح إجراءات الهيئات الدولية، والاستجابة على مستوى إقليمي، وإحياء الجهود التعاونية فيما بين البلدان منخفضة ومتوسطة ومرتفعة الدخل."
و تشكل المؤسسات الشرعية التى توفر أمن المواطن والعدالة وفرص العمل حصناً حصيناً يقى المجتمع من مخاطر العنف بمختلف أشكاله.
ويظهر التقرير كيف يتفاقم ما يتسم به القرن الحادى والعشرون من عنف منظم بفعل مجموعة متنوعة من الضغوط المحلية والدولية، كالبطالة بين الشباب، وصدمات الدخل، والتوترات فيما بين المجموعات العرقية أو الدينية، أو الاجتماعية المختلفة، أو عدم المساواة، أو انتشار الجريمة المنظمة، وشبكات الاتجار غير المشروع. ووفقاً لدراسات استقصائية أجراها فريق إعداد التقرير لآراء المواطنين، فإن البطالة كانت أهم العوامل على الإطلاق التى ذُكرت بوصفها سببا للانضمام للعصابات ولحركات التمرد.
لكن هذه الضغوط لا تتصاعد إلى أعمال عنف فى جميع البلدان. ويتيح التقرير عن التنمية فى العالم شواهد جديدة توضح أن البلدان التى تفتقر إلى المؤسسات الشرعية، بما فيها تلك التى ترتفع بها مستويات الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، تكون أقل قدرة على احتواء هذه الضغوط. ومن ثم، فإن المؤسسات الشرعية تشكل الحصن الحصين الذى يحمى المجتمعات من مخاطر تفشى العنف.
وتستنبط مطبوعة التقرير الدروس من البلدان مرتفعة ومتوسطة ومنخفضة الدخل التى نجحت فى التحول بعيداً عن دوامات العنف. ولابد، فى أوضاع البلدان الهشة، من بذل جهود مدروسة لبناء الثقة بين المواطنين والدولة. ويتطلب ذلك بدوره بناء ائتلافات سياسية تشمل نطاقاً أوسع من فئات المجتمع بحيث تولد دعماً وطنياً عريض القاعدة من أجل التغيير وبذل جهود واعية تدل على طى صفحة الماضى والابتعاد عن أساليبه.. وذلك من خلال تحقيق نتائج مبكرة ذات مصداقية، واتخاذ إجراءات تقنع الناس بالالتزام بالتغيير.
وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة لسرعة التحرك لاستعادة الثقة، فإن التقرير يوضح أيضاً أن إحداث تحولات مؤسسية يستغرق وقتاً طويلاً. إذ بلغت المدة الزمنية التى استغرقتها أسرع البلدان إصلاحاً فى القرن العشرين جيلاً كاملاً لكى تصبح المؤسسات الوطنية الضعيفة أو غير الشرعية قادرة على الصمود فى وجه العنف وعدم الاستقرار. كما أن المجتمعات التى نجحت فى الخروج من دوامة العنف مرت كلها بسلسلة من المراحل الانتقالية، وليس فقط بلحظة تغيير "فاصلة".
وبالنسبة للإصلاحيين الوطنيين، فإن التقرير يطرح مجموعة من الأدوات التى ثبتت فعاليتها فى بلدان قامت بعمليات تحول ناجحة لبناء الثقة بين المواطنين والدولة. وتشمل هذه الأدوات: وضع تدابير لتعزيز الشفافية، وإقرار اعتمادات خاصة بالموازنة من أجل الفئات المحرومة، والقيام بتعيينات جديدة تحظى بالمصداقية فى المناصب المهمة، وإزالة القوانين التمييزية، بالإضافة إلى تقديم التزامات ذات مصداقية بأطر زمنية واقعية من أجل الإصلاح فى الأمد الأطول. ويحدد التقرير أيضاً برامج عملية على المستوى الوطنى للربط بين الإسراع ببناء الثقة وبين التحول المؤسسى الأطول أمداً ـ فى مجالات خلق فرص العمل، وإصلاح قطاعى الأمن والعدالة، وتمكين المجتمعات المحلية، وإشراك المرأة، ومكافحة الفساد.