التاريخ : الاثنين 09 may 2011 06:47:08 مساءً
لعله من الملائم البدء بتحديد المراد بمصطلح " دراسة الجدوى "، فالمتأمل للمصطلح يجد أنه يتكون من كلمتين " دراسة " و" جدوى "، إذاٌ ينصرف هذا المصطلح إلى القول بأننا بصدد إجراء دراسة وليس عملا عشوائيا أو غير منضبط، لجدوى مشروع ما، وهنا تنصرف الجدوى إلى : هل هذا المشروع من المجدي القيام به بداءة ؟ أم أن الأفضل تركه وتبني مشروع آخر؟ وإذا ما تم اختيار هذا المشروع، هل ستظل جدواه سارية؟ أم سيؤدي تغير الظروف وطبيعة مدخلات العملية إلى رفضه أو تعديله أو تبني مشروع آخر؟ وهو ما يحدو بنا إلى التوقف عند مفهوم إداري شائع هو مفهوم المدخلات/المخرجات Input/Output analysis، ومؤداه أنه يمكن تحليل أي قرار من واقع المدخلات أو المعطيات المتوافرة بالفعل، وما ستؤدي إليه هذه المعطيات من مخرجات (أو عوائد)، وعلى ضوء النتيجة يكون القرار.
ففي حالة دراسة جدوى مشروع ما (أو قــــرار ما)، يجب أن يتم الأخذ في الاعتبار – وبصورة جدية – أكبر قدر من المعلومات المتاحة والمدخلات المتوافـــرة حتى تكون النتيجة – إلى حد بعيد – قريبة من تلك المتوقعة حين البدء بإجراء (تنفيذ) المشروع. هذا، وتختلف طبيعة المشروعات عن بعضها البعض (وبالتالي، تختلف كل من المدخلات والمخرجات)، ومن ثم فلا يمكن نقل تجربة ما بحذافيرها تم نجاحها في قطاع أو بلد ما،إلى بلد آخر، بل لابد من تطويع كل تجربة لظروف البلد المطبقة فيه من حيث المناخ الاقتصادي والسياسي والاجتماعي... إلخ، كما يجب ملاءمة كل مشروع للبيئة المطبقة له.
كذلك تجدر الإشارة إلى مفهوم البعد الزمني وتقسيمه بصورة أولية إلى أجلين (أجل قصير Short-run وآخـــر طويل Long-run)، وأن ما يصدق في الأجــــــل القصير قد لا يصدق – بالضرورة – في الأجل الطويل. والرأي عندي، أن تحليل الأجل القصير قد يبدو للوهلة الأولى قاصرا إذا ما قورن بتحليل الأجل الطويل، ومن ثم يلجأ البعض إلى المفاضلة بين الأجلين لصالح الأخير. ولكنني أعتقد أن تحليل الأجل القصير أكثر دقة، ذلك لاحتوائه على مدخلات أقل وعناصر مفاجأة أدنى، فالأجل الطويل عامة غير مضمون خاصة مع إطراد طول الفترة الزمنية، وهو ما يدفعنا إلى تذكر مقــــولة الاقتصادي الشهير اللورد " جون ماينـــارد كينز " : In the long run, we are all dead وبدهي، أن المدى الزمني لكل من الأجلين القصير والطويل يختلف باختلاف المشروعات المزمع إجراء دراسة الجدوى لها.
والنقطة التالية في هذه العجالة تنصرف إلى مدى " جدوى " دراسة الجدوى، وما إذا كان شعارا يردده كل من يعتزم إقامة مشروع ما؟ أم أن هناك حاجة فعلية إلى دراسة " جدوى " أي مشروع؟ ويمكن القول أننا غالبا ما نكون بصدد حالات مختلفة، فنجد شخصا ما يقوم بعمل دراسة جدوى منمقة وشاملة لأمر أو مشروع بدهي لا يستدعي كل هذا التكلف، وعلى النقيض نجد آخرا لا يعبأ بإجراء الدراسة لمشروع يحتاج بالفعل لدراسة متأنية ومتعمقة، ومن ثم تكون النتيجة غير محمودة في الحالتين.
كذلك يمكن القول – عامة – بأن المصطلح غير قاصر على المشروعات التجارية، كما قد يعتقد البعض، وإنما يمكن أن ينصرف إلى كافة مناحي الحياة. وفي مجال دراسات الجدوى، من الأفضل عدم الاعتماد على الأرقام بصورة مغال فيها، وإنما تكون الأرقام في إطار السياق العام للدراسة، فهناك متغيرات أخرى يجب أن تؤخذ في الاعتبــــار، اللهم إلا إذا كانت الأرقام – في حد ذاتها – مؤشرا لمدلولات بعينها.
وأزعم بأن هناك من يؤمن بأنه طالما تم إعداد دراسة جدوى لمشروع ما، تصبح هذه الدراسة بمثابة "دستور" أو "ميثاق" للعمـــــل في هذا المشروع، بمعنى أن يكون ذلك بمثابة " القول الفصل " وهو فهم غالبا ما يجانبه الصواب، إذ أنه لا توجد دراسة خالية من القصور أو الزلل، كما أنه لا توجد دراسة صالحة " لكل زمان ومكان "، مما يستدعي القول بوجوب عمل تحديث updating لأية دراسة تم إعدادها، وعدم الركون إلى جدواها طويلا، وذلك بغية الحصول على مخرجات مفيدة ومتسقة مع إطارها آنيا.
وتجدر الإشارة إلى ضرورة دراسة تكلفة " دراسة الجدوى "، وهل العائد من وراء القيام بها يبرر تكلفتها وفقا لمفهوم تحليل التكلفة/العائد Cost/Benefit analysis . كذلك، تختلف دراسات الجدوى في طبيعة القائمين بإعدادها من حيث تخصصهم المهني، وأعدادهم،... إلخ، فنجد أن دراسة ما قد تحتاج لفريق عمل، في حين لا تحتاج دراسة أخرى إلا إلى فرد أو فردين...، وهلم جرا.
كذلك ينبغي علينا الإشارة إلى التساؤل الذي قد يعن، وهو : هل من الأفضل أن تقدم نتائج الدراسة في صورة توصية بعمل معين أو مسار بعينه ؟ أم أن تقدم في صورة بدائل وأولويات ينتقي منها متخذ القرار ما يلائمه ؟
مما تقدم، نجد أن مفهوم " دراسات الجدوى " هو مفهوم شامل حاو Holistic يتسم بالديناميكية والاستمرار، وليس مجرد وضع استاتيكي جامد نلتزم به حرفيا. ومن ثم، فإنه يجب على من يلقى على عاتقه مهمة إعداد الدراسة أن يكون على وعي بهذا، وعلى دراية بالمتغيرات المحيطة به، إن سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، حتى يتم ضمان قدر من الدقة في إعداد الدراسة بالتحليق عاليا لرؤية الغابة من عل، ثم الهبوط لكشف الأشجار فرادى. |