التاريخ : الخميس 17 november 2011 12:19:02 مساءً
تتعقد الأمور فى مصر بشكل متصاعد يومًا بعد يوم، فبعد أن احتفلنا بسقوط الطاغية وكبار معاونيه كان علينا أن نفيق من نشوة الانتصار على مخاطر سياسية واقتصادية!
قبلناها وقلنا لأنفسنا إنها أمور طبيعية فى ظل تراكمات طويلة من الممارسات الفاسدة لإدارة البلاد.الفقر والبطالة وتدهور التعليم والصحة والزراعة والصناعة والتجارة والإسكان والمرافق ووسائل المواصات والبيئة... كلها بدت لنا تحديات شديدة، ولكنها غير مستعصية على الحل لمن يتبع المنهج العلمى، ويُخلص فى التصدى للمشكلات المختلفة بخطط قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل.
أما تراجع الشعور بالأمان، فقد تفاوت من مواطن لآخر طبقًا لظروف معيشته وأنواع المخاطر الأمنية التى يتعرض لها هو ومن يتحمل مسؤولية حمايتهم. أنا شخصيًّا أشعر بالأمان الآن أكثر من ذى قبل،
أعنى فترة ما قبل الثورة حين كنت أدخل بيتى ليلاً غير مطمئن إن كنت سأستيقظ على جرس منبه الموبايل أو على طرق بوليسى على الباب!لم أكن مطمئنًّا أبدًا إلى أن إحدى سيارات الأمن المركزى العملاقة لن تُكلَّف يومًا بإغلاق "ساقية عبد المنعم الصاوى" التى تفانيت فى تأسيسها مع إدارة من الشباب الذين آمنوا برسالة الفكر والثقافة تدعيمًا للحريات وفى مقدمتها حرية التعبير والإبداع.
لقد وصل الأمر بداخلية العادلى أن أطلقت علينا إحدى إداراتها الفاسدة لتغلق الساقية بحجة عدم توافر اشتراطات الأمان!! لم أنفذ قرار الإغلاق متوكلاً على الله، ومستندًا على تأييد شعبىّ جارف لنقطة بيضاء رصدها الشباب وسط ظلام حالك.يبقى الأمن إذن أحد أهم المشكلات المعقدة التى تحتاج –مع غيرها- إلى علاج حاسم وعاجل.رصد المصريون كل هذه التعقيدات وتباطؤ القائمين على البلاد فى حلها، فبدأوا يتململون وَيَشْكُون، ثم أصبحوا يتظاهرون ويعتصمون ويُضربون... أصاب الجميعَ قلقٌ وأرقٌ وتوترٌ وخوفٌ من سقوط مدوٍّ يطلق ثورة من نوع جديد.. ثورة لا يضمن أحد سلميتها.. ثورة محتاجين أو جياع أو طهقانين.
ظن المصريون أنهم أمام تحديات ومخاطر عظيمة حتى ظهر لهم ما هو أعظم وأخطر منها، فدخلوا فى حالات اليأس والإحباط والاكتئاب والتعاسة! حدث هذا بينما اكتشف المصريون أن التعقيدات السياسية والاقتصادية أقل خطورة وتأثيرًا على المواطنين من التعقيدات الثقافية والاجتماعية.فجأة لم يعد على الشفاه إلا سؤال واحد: مصر إلى أين؟كتبت مع غيرى كثيرًا عن خطورة إهمال الثقافة وتَرْكها فى أيدٍ غير أمينة لأطول من عقدين من الزمان؛ الثقافة هى المسؤولة عن إرساء المفاهيم الصحيحة فى أى مجتمع، وهى المسؤولة عن توصيف الهوية وأبعادها ودلالاتها، وهى المسؤولة عن وضع الرؤى العامة لأى أمة، كما أنها المسؤولة عن الحريات بقائمتها الطويلة. الثقافة التى لا يمكن لأحد أن يعبئها فى زجاجة ليسقيها للناس.. مستقرة فى وجداننا ومتأصلة فى تراثنا ودورات حضاراتنا المتعاقبة.
لا شك أن ثقافتنا تمر بأزمة عاصفة أو هى بالفعل أعقد وأدق أزماتنا كما اكتشف الجميع قبل فوات الأوان والحمد لله.من مع من؟ ومن ضد من؟ كيف نصوغ أولوياتنا؟ أهناك ما هو أكثر إلحاحًا من توفير لقمة العيش؟ ما هى العلاقة بين الثقافة وسائر التعقيدات والمشكلات الأخرى؟ تداخلت الخيوط وتشابكت كما يحدث أحيانًا لمحركى العرائس الذين أعتز أنى واحد منهم.. عندما تتعقد خيوط عروسة الماريونت يقوم المحرك بتدقيق النظر وفحص الحالة،
وبمجرد أن يستوعب المشكلة وحجمها يبدأ فى اتخاذ قرارات عاجلة وحاسمة.. لقد مررت كثيرًا بهذه الحالة، وأصابنى رعب أن يكتشفها الجمهور قبل أن أكتشف أنا الحل.طول العشرة مع العرائس جعلنى أكتشف ما هو أجمل وأكثر إثارة من الوصول إلى الحل وتنفيذه؛ إنها عملية التفكير ذاتها، وما تمنحه لمن يعتادها من لذة يصعُب التعرف عليها وإدراك قيمتها إلا بالممارسة.لذة التفكير إحدى نعم الله عز وجل التى لا تعد ولا تحصى، فلولا لذة التفكير ما أحب الناس التفكير،
ولولا حب التفكير ما حُلت مشكلة واحدة.إن أعظم إنجازات الثورة هو نقلنا من عصر التفكير الفردى إلى عصر التفكير الجماعى الذى يشرك الجميع بدرجات متساوية من الحقوق فيكون هو الركيزة الأساسية للمفهوم الصحيح للديمقراطية.أرجو اعتبار هذا المقال دعوة عامة لتذوق لذة التفكير.
|