التاريخ : الخميس 08 december 2011 12:23:36 مساءً
جلس الركاب فى مقاعدهم.. أُغلقت الأبواب ليختفى ضجيج الشارع الجنونىّ، وتحل بدلاً منه موسيقى هادئة.
مع بداية تحرك الأتوبيس ينطلق صوت المرشدة السياحية: أهلاً بكم فى رحلة اليوم، شركة "إيجيليكشنز ترافل" ترحب بكم فى جولة سياحية فى الانتخابات البرلمانية، سنبدأ بزيارة مفتوحة إلى متحف البرلمان المصرى.. ها هو.. بدأ يظهر هناك فى نهاية الشارع على اليمين.
بهدوء ينزلون جميعًا من البابين: الأوسط والأمامى، ويدخلون بنظام.. يتوقفون أمام لوحة كبيرة ذات إطار ذهبىّ ذى ذخارف عتيقة.. المرشدة السياحية: هذه صورة عمرها سبعة وثمانون عامًا، وهى عبارة عن تصوير زيتىّ لأول برلمان مصرى تأسس عام 1924.. لاحِظوا أنهم يلبسون الطربوش الأحمر، وقد أطلق أغلبهم شوارب ذلك العصر الملفوفة إلى أعلى تعبيرًا عن العظمة والشموخ.. اتبعونى من فضلكم.. وانظروا إلى هذه الصورة (أصوات استياء وضجر) أقدر مشاعركم، لقد تعمدت إدارة المتحف أن تضع أحدث صورة التقطت للمجلس المخلوع فى بداية هذا العام.. المفارقة واضحة والتباين جلىٌّ بين رجال وطنيين حقًّا، وبين مزورين تجردوا من أولى صفات الإنسان التى تميزه عن سائر المخلوقات الأخرى، ألا وهى الحياء.
أدعوكم الآن لجولة حرة داخل المتحف لمدة نصف ساعة نلتقى بعدها عند الأوتوبيس.
داخل الأوتوبيس تستأنف المرشدة: نتجه الآن إلى ميدان التحرير حيث اندلعت شرارة أعظم ثورة عرفتها مصر: ثورة ميادين التحرير المصرية يوم 25 يناير.. أسقطت رأس النظام، والبقية تأتى قريبًا بإذن الله. (مرشدة ثورية جدًّا).
اكتسبت الثورة المصرية قيمتها العظيمة من دماء الشهداء الطاهرة، وتضحيات المصابين الغالية، ونضال كل مصرى خرج إلى الشارع، أو سهر الليالى يدعو الله أن يوفق الثورة وينصرها على أعدائها.
ثورة مصر فرضت إجراء انتخابات برلمانية، وصياغة دستور جديد، وتسليم السلطة إلى رئيس مدنىّ منتخب من الشعب الذى أدرك أخيرًا أنه السيد وأنه مصدر السلطات الوحيد. (تصفيق حاد رد به الركاب على حماس المرشدة السياحية التى ألهبت مشاعرهم الوطنية). نتوقف الآن أمام مقر اللجنة العليا للانتخابات لنتعرف على شروط الترشح. (داخل مقر اللجنة تسأل المرشدة ضيوفها): هل سبق أن تقدم أحدكم لملء استمارة تأشير دخول أى بلد؟ تذكروا أبسط الاستمارات، وتذكروا ما كانت تحمله من أسئلة عديدة.. المفارقة المخجلة هى أن الترشح لمجلسى الشعب والشورى فى مصر أبسط من دخول أكثر دول العالم تسهيلاً لإجراءات زيارتها!! كل المطلوب هو بطاقة رقم قومى، وشهادة ميلاد، وشهادة خدمة عسكرية للرجال، وشهادة دراسية، وصحيفة سوابق فقط لا غير!
لا يُسأل مرشحونا عن مصادر دخلهم، ولا عن سيرتهم الذاتية فى العمل وفى الانتماءات السياسية، حتى موقفهم الاجتماعىّ، وحالتهم الصحية تُعامل بكل أسف كالأسرار الحربية؛ لا أحد يعلم شيئًا عن المرشح الذى يُفترض أن يشارك فى صياغة الدولة العصرية الحرة التى طالما حلمنا بها.
مساكين ناخبونا الذين يعانون من نقص حادٍّ فى المعلومات، ونحن فى أزهى عصور المعلومات.
منطق مضحك ومحزن فى نفس الوقت.. مهم أن تعرفوا أن المعتصمين فى بعض الميادين كانوا يقطعون اعتصامهم لفترة محدودة للإدلاء بأصواتهم.. على مدى يومين قدم الشعب المصرى نموذجًا خارقًا للعادة فى أول اختبار للتصويت الحر.
اختبار آخر نجح فيه الشعب المصرى العظيم، ألا وهو عدم السقوط فى فخ الاستفزاز الممنهج الذى خضع له.. لم يتوقف المصريون عن الابتسام وإطلاق النكات وهم يواجهون قنابل الغاز الجديدة، ثم استلقوا على ظهورهم ضحكًا وهم يستقبلون أخبار التشكيل الوزارى الجديد.. أقصد القديم جدًّا!
لم تزعجهم التصريحات التى تفيد بأن مجلس الشعب سيكون منزوع المخالب.. عديم الصلاحيات، ولا شَغَلَ بالهم تسريب بعض فقرات من دستور لم يُصَغْ بعد، فقد وعوا الدرس، وأيقنوا أنهم (أى الشعب) هم صمام الأمان الوحيد للحيلولة دون تمرير نصوص خادعة.
ضيوف شركة (إيجيليكشنز ترافل) الأعزاء: وصلنا إلى استراحة الغداء، للأسف سنأكل وجبة باردة لأن أسطوانات البوتاجاز غير متوفرة!
بعد الغداء نستكمل جولتنا مع باقى مراحل انتخابات الشعب، وبعدها الشورى، وتشكيل لجنة صياغة الدستور، وانتخاب رئيس الجمهورية.
|