التاريخ : السبت 28 may 2011 08:32:54 مساءً
عاشت الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، فى العالم العربي، حيناً من الزمن تنتظر أن تنفتح أمامها النوافذ والأبواب على مصراعيها فى سبيل أن تنفرد بسدة الحكم، أو بجزء منها، أو على الأقل تمارس عملها فى مأمن من الملاحقات والمطاردات والتهميش المتعمد، الذى طاولها فى العقود التى خلت.
وظل أصحاب هذا اللون من التفكير والممارسة السياسية يعتقدون أنهم أحق بالقيادة من كل المنتمين إلى تيارات سياسية وفكرية ماج بها العالم العربى على مدار قرن كامل، تمكنت فيه من أن تسيطر على مقاليد الأمور، سواء بتولى الحكم أو بامتلاك نفوذ اجتماعى كاسح. لكن هذه التيارات لم تلبث أن فتُرت همتها وضعفت شوكتها وران عليها الجمود، وأفلست فى أن تقدم مشروعات نهضوية قادرة على أن تقود العرب إلى نجاح متصل، بعد أن وقع أغلبها فى فخ الأيديولوجيات المنفصلة عن الواقع، أو صار معلقاً بإرادة حكام مستبدين، وجماعات ونخب فاسدة ومتسلطة، وحلقات ضيقة من جماهير منتفعة، وليست مقتنعة.
وفى حديثهم عن دورهم القيادى الذى حان وقته، يرى الإسلاميون أن دور الليبراليين العرب قد تراجع بعد أن نالت الدول العربية استقلالها. ففى أيام المستعمر كان أغلب النخب العربية التى تقود الكفاح تنتمى إلى الليبرالية فى قيمها العامة، لكنها فقدت موقعها الأمامي، بعد الاستقلال، وبروز التيار القومي، الذى غلبت عليه الأيديولوجيات ذات الطابع اليساري. ويعجز الليبراليون العرب فى الوقت الراهن عن استعادة مكانتهم المفقودة ومجدهم الضائع، بل إن فريقاً منهم يرميه كثيرون بالخيانة، وممارسة دور «الطابور الخامس» للمشروع الأميركى فى المنطقة، والذى يسعى إلى النيل من العروبة، مفهوماً وتاريخاً ونظاماً إقليمياً، لحساب ما يسمى «الشرق أوسطية» و «القطرية». ومن ثم، فإن مصطلح «الليبراليون الجدد» بات سيئ السمعة، وبات أصحابه مطالبين ببذل جهد فائق فى سبيل الدفاع عن سمعتهم ومسلكهم وإخلاصهم لبلادهم، قبل أن يفكروا فى تعبئة الناس حول أفكارهم وتصوراتهم، أو يسعوا إلى تجنيد أعضاء جدد فى تنظيماتهم الهشة. وفى الوقت ذاته، فإن الليبراليين العرب «التقليديين» يضعفون مع مشرق كل يوم جديد، بفقد أرضيتهم الاجتماعية، وانطوائهم أكثر فى أبراجهم العاجية، والاستمرار فى طرح خطاب نخبوي، مغلق على فهم كثير من العوام، وغير قادر على منافسة المنتج المعرفى والممارسة الحركية لأتباع التيارين الإسلامى والقومى معاً. وهذا الوضع لم يتغير كثيراً بعد الثورات العربية، التى وقعت فى تونس ومصر، وتجرى حالياً فى اليمن وليبيا وسورية والبحرين.
كما يقصد الإسلاميون بحديثهم عن أحقيتهم فى تولى دفة الأمور أن التيار القومى قد فشل، هو الآخر، فى أن يحافظ على المكتسبات المهمة التى حازها قبيل رحيل الاستعمار وبعيد التحرر منه، ولم تنجح الأيديولوجيات التى تبناها وفى مقدمها «الناصرية» و «البعثية» فى أن تنهض بالواقع العربي. فالأولى ترنحت بعد هزيمة 5 حزيران (يونيو) 1967 ثم قضى عليها بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر. أما الثانية فتعرضت لهزة عنيفة بسقوط نظام الرئيس صدام حسين على أيدى الأميركيين فى التاسع من نيسان (ابريل) 2003، وقيام ثورة فى سورية ضد حكم حزب البعث بقيادة الرئيس بشار الأسد.
فى حقيقة الأمر، فإن التطورات السياسية التى جرت فى الساحة العربية مطلع القرن الراهن تقول بجلاء إن أيام «الإسلاميين» ربما تكون قد أتت بفعل الثورات، بعد أن ظلوا يلهثون وراء ميلاد لحظة التمكن طيلة سبعة عقود من القرن العشرين من دون جدوى. فالمد القومى بميوله اليسارية كان على أشدّه عقب فترة التحرر من الاستعمار، وها هو يتراجع. والتيار الليبرالى الذى قاد حركة الكفاح ضد الاحتلال فى أكثر من قطر عربي، يعيش حالة من العزلة النسبية، وعلى التوازى تراجع تأثر النخب العربية بالشيوعية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
بدأ نجم «الإسلاميين» العرب يلمع، وأخذ أصحابه يعدون العدّة لولاية الأمر فى أكثر من بلد عربي، وفى مطلعها مصر، التى باتت جماعة «الإخوان المسلمين» التى كانت محظورة قانوناً، القوة السياسية الحقيقية على الأرض. وركبت الثقة المبالغ فيها كثيراً من «الإسلاميين» فراحوا يتيهون على الناس، معتبرين أن دورة التاريخ قد انتهت إليهم، وأن المستقبل سيكون لهم إلى الأبد، بعد أن جربت الجماهير العريضة غيرهم وخرجت خالية الوفاض، أو حصدت قليلاً لا يسد كل الحاجات، ولا يلبى كل المطالب، ولا يحقق كل الأمنيات العريضة، التى تاقت إليها الشعوب العربية عقب استقلالها.
ويعتمد «الإسلاميون» فى تعزيز خطهم البيانى المتصاعد عربياً على خمسة أمور، أربعة منها تاريخية، والخامس مرتبط بقيام الثورات العربية الراهنة. ويمكن ذكر هذا على النحو الآتي:
1- «شرعية المقاومة»، بمعنى الاتكاء على أن عناصر إسلامية، تنتمى إلى جماعات وتنظيمات عدة، هى التى ترفع لواء المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين وجنوب لبنان والجولان، وضد الاحتلال الأميركى للعراق. بل إن هذه العناصر قد تمكنت عبر «تنظيم القاعدة» من نقل المعركة إلى أرض «العدو» وإجباره على الدفاع بعد أن استمرأ الهجوم على العرب والمسلمين، من خلال الأعمال الإرهابية التى ينفذها التنظيم فى أوروبا والولايات المتحدة، والتى تتوهم فصائل إسلامية راديكالية أنها تشكل خطوة واثقة على طريق تحرير أرض العرب والمسلمين من الاحتلال، وإعادة الهيبة إلى المنطقة، وإفشال أى مشروع لتفتيتها أو هضمها.
2- حيازة جماعات إسلامية «معتدلة» ثقة جماهير غفيرة أولتها لمرشحى التيار الإسلامى فى انتخابات تشريعية ومحلية أُجريت فى أكثر من بلد عربى خلال السنوات الأخيرة، ومنها الكويت والأردن والمغرب والبحرين والمملكة العربية السعودية ومصر، مع تقدم «الإسلاميين» فى الخريطة السياسية لبقية الدول، إما عبر القنوات الشرعية، أو من خلال العمل السري، وانتهاز فرصة تاريخية للقفز إلى السلطة، مثل ما كان يحدث فى سورية، حيث نظرت قطاعات عريضة من الجماهير إلى جماعة «الإخوان المسلمين» على أنها أقوى طرف معارض للنظام، وبالتالى فهى المرشح لوراثته حال سقوطه، وهى مسألة قائمة الآن مع تواصل الثورة السورية.
3 - تقديم «الإسلاميين» أنفسهم باعتبارهم ضحايا، أو جماعات مضطهدة، يمارس ضدها تمييز سياسى واجتماعى بل ودينى فى بعض الأحيان، وأنهم بذلك يكونون التيار الذى دفع ثمن الكفاح ضد نظم حكم تتراوح بين الطغمائية والشمولية، ومن ثم فهم أولى بوراثة هذه النظم من غيرهم. وقد نجحت بعض فصائل الإسلاميين فى السنوات الأخيرة فى أن تحتل موقعاً متقدماً فى التقارير الدولية التى ترصد «الاضطهاد» و «التمييز» الدينى فى العالم العربي. كما استطاعت هذه الفصائل أن تكسب تعاطف بعض القوى الغربية، فأوروبيون كثر حاولوا كسر الحصار الإسرائيلى على غزة، والولايات المتحدة باتت مقتنعة بإمكانية فتح حوار مع «الإخوان المسلمين» فى مصر وغيرها، ولم يعد ينطلى عليها نظام الفزاعات التى تخلقها الأنظمة العربية الحاكمة من التيار الإسلامي.
4 - إلحاح الإسلاميين على حقهم فى نيل فرصتهم، كما نالتها التيارات السياسية والفكرية الأخرى، وهذا الإلحاح واضح فى كتاباتهم عن أنفسهم وعن الآخر، وفى شعاراتهم السياسية وأهمها «الإسلام هو الحل»، وفى عملية التلقين المستمرة التى تقوم بها قيادات الحركة الإسلامية ورموزها لأتباعها. ومن يطالع كتابات سيد قطب ومحمد قطب وأنور الجندى وغيرهم يلمس هذا التصور حاضراً بشدة، ويجد أنه قد وصل فى أذهانهم «الإسلاميين» وأفئدتهم إلى درجة العقيدة السياسية، بل والدينية فى بعض الأحوال والمواضع.
5 - ينظر الإسلاميون إلى أنفسهم باعتبارهم العنصر الفعال فى الثورات العربية الراهنة. وهذا حقيقى إن كنا نتحدث عن مسار الدفع الذى تمتلكه هذه الثورات، لكنه ليس صحيحاً إن كنا نتحدث عن القوة التى أطلقت تلك الثورات. فالإخوان المسلمون فى مصر مثلا أعلنوا أنهم لن يشاركوا فى التظاهرة التى اتفقت قوى سياسية وتجمعات شبابية على إطلاقها فى «25 يناير»، واقتصرت مشاركتهم فى اليوم الأول على عشرات الشباب الذين لم يمتثلوا لقرار مكتب الإرشاد بعدم المشاركة، لكن فى اليوم الرابع للثورة ألقى الإخوان بثقلهم، وساهموا فى تنظيم ميدان التحرير وغيره من الميادين الثائرة فى مصر، لكن الثورة المصرية يظل بطلها الحقيقى هو الشعب المصرى كله، وليست جماعة أو فرقة أو تنظيماً بعينه. أما فى ليبيا واليمن وسورية ومن قبل فى تونس، فإن التيار الإسلامى يشارك كجزء من الشعب، لكن امتلاكه قدرات تنظيمية أفضل من شركائه فى هذه الثورات قد يجعله من المنافسين بقوة على السلطة فى مرحلة ما بعد الثورات، وهى فرصة لم تتح للإسلاميين من قبل.
وعلى رغم أن هذه العناصر الخمسة لا تخلو من صدقية نسبية، إذا قيست على الواقع المعيش، فإنها تتجاهل أموراً عدة، أو تقفز عليها فى شكل متعمد، وبطريقة يراد منها أن يكون «الإسلاميون» فى الواجهة، بغض النظر عن مدى ملاءمة تفكيرهم السياسى للواقع، ومدى قدرته على أن يقدم بديلاً حقيقياً لما هو موجود. ومن بين هذه الأمور:
أ - لا تعتمد حركة المقاومة فى العالم العربى على الإسلاميين فقط. ففى فلسطين لا يمكن أن نختزل الكفاح ضد الاحتلال فى سلوك حركة المقاومة الإسلامية «حماس» و«الـجهاد الإسلامي»، ونهيل التراب على تاريخ من النضال تحت راية «فتح» وفصائل يسارية لا تزال تقاوم. وفى العراق تشير الإحصاءات إلى أن المقاتلين المنضوين تحت لواء ما يسمى بتنظيم «القاعدة» فى بلاد الرافدين لا يشكلون سوى نحو ثلاثة فى المئة فى حركة المقاومة المسلحة، ونسبة مقاربة لهذا تنتمى إلى تنظيمات «إسلامية» عراقية، والغالبية تنتمى إلى حزب البعث، وهو قومى عربي. كما أن جزءاً من أداء القاعدة فى العراق ليس موجهاً ضد الاحتلال إنما ضد العراقيين أنفسهم، ممن يخالفون هذا التنظيم فى أفكاره وتوجهاته ومذهبه الديني. وفى لبنان لا تقتصر المقاومة على «حزب الله» وإن كان هو الأبرز فى السنوات الأخيرة. فهذا الحزب مدعوم من نظامى حكم علمانيين، يعض الأول بالنواجذ على مقاومة إسرائيل، وهو النظام السوري، ويمنح الثانى «حزب الله» شرعية سياسية ويسمح له بحرية الحركة، ويمد له يد العون ما أمكنه، وهو النظام اللبناني.
ب - وجود ضحايا آخرين، يساريين وليبراليين، للأنظمة الحاكمة فى العالم العربي، يدفعون أيضاً ثمناً لنضالهم من أجل حياة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية أفضل، وهذا معناه أن التيارات الأخرى لم تستسلم للوضع السائد تماماً، وتترك الراية فى يد «الإسلاميين» فقط، بعد أن اشتد ساعدهم، وباتوا ظاهرين على الجميع. فحركة النضال من أجل الديموقراطية، والمساعى الرامية إلى تقوية شوكة المجتمع المــدنــي، يقــع الجزء الأكبر منها على عاتق «الليبراليين» و«القوميين»، وبعض فصائل اليسار الجديد. وهؤلاء يتعرضون لألوان عدة من التقييد والتضييق السياسى والاقتصادي.
ج - قصور نظرة بعض الإسلاميين إلى الديموقراطية، وإجراءاتها أو آلياتها، ومنها الانتخاب. فالامتثال للنهج الديموقراطى أو الرضا به وسيلة للحكم، يجعل من اعتقاد هؤلاء بأن التجريب السياسى انتهى إليهم وأنهم بمنزلة «نتيجة» لكل المقدمات التى توالت فى تاريخ العرب الحديث والمعاصر، هو اعتقاد خاطئ، يفتئت على متطلبات الديموقراطية نفسها، ولا يجعل الناس مطمئنين كثيراً إلى أن التنظيمات والجماعات الإسلامية المسيّسة قد آمنت بالتعددية السياسية وتداول السلطة، أو آمنت بإقامة «الشرعية» على اختيار الجماعة، بخاصة فى ظل عدم إيمان فصيل فاعل من الحركة الإسلامية بعملية الانتخابات القائمة على تكافؤ الفرص، وليس مجرد «شفافية الصندوق»، الأمر الذى بينته انتقادات الرجل الثانى فى «القاعدة» أيمن الظواهرى مراراً لمشاركة الإخوان المسلمين فى مصر فى الانتخابات التشريعية الأخيرة، وتظهره بجلاء بعض أدبيات التيارات السلفية والجهادية الموجودة تحت رايات ومسمّيات عدة فى العالم العربى من شرقه إلى غربه.
إن ارتفاع صوت الإسلاميين على ما عداهم، وامتلاكهم قدرة على الحشد والتعبئة، واكتسابهم رصيداً جماهيرياً عريضاً، هى أمور لا يمكن نكرانها. كما أن رغبة «الإسلاميين» فى العمل بين الناس، بالحصول على الشرعية السياسية والمشروعية القانونية، حق لهم كجماعات وطنية، وتيار سياسى فرض نفسه، وتميل الكفة لمصلحته فى المستقبل، إن استمرت التيارات السياسية والفكرية الأخرى على حالها. ولكن حتى تضيف الحركة الإسلامية إلى رصيد الأمة، وتنجيها من الوقوع فى كارثة جديدة، لا بد من تطوير فكرها السياسي، بترشيد جموحها إلى نيل السلطان بأى طريقة، وترسيخ إيمانها بحق التيارات السياسية الأخرى فى الوجود والاستمرار والعمل، وبناء قدرة على التفاعل الخلاق مع العالم الخارجي، وقبل ذلك كله تقديم برامج واقعية ومدروسة للنهوض بالواقع العربى المتردي، وآليات تضمن أن حلول الإسلاميين محل الآخرين فى تولى زمام الحكم فى بعض البلدان العربية، ليس تبديلاً للوجوه، ولا وضع لافتة جديدة على «منشأة» قديمة، أتى عليها الظلم السياسى والاجتماعي، فأصبحت جداراً يريد أن ينقض، وقبل كل ذلك الاستجابة الكاملة لمطالب الثوار وشعار الثورات باعتبارها صاحبة الشرعية الآن، والتى لم تخرج عن النزوع إلى الحرية والكفاية والكرامة والعدالة الاجتماعية. |