التاريخ : الخميس 23 february 2012 04:23:12 مساءً
أجل ما لفت انتباهى خلال مشاركتى فى فعاليات الدورة الثانية لـ«جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابى» التى انعقدت بالخرطوم خلال يومى 15 و16 فبراير الجارى هو استعادة كثير من الأدباء العرب للعلاقة التبادلية بين المجتمع بكل إفرازاته ومعطياته وبين النص الإبداعى، شعرا ونثرا، بعد طول تيه فى طريق معاكس ظهرت فيه نصوص تحتفى فقط بـ«التشكيل الجمالى للغة» متنصلة من أى حمولات حول قيم أو معان أو قضايا، وتم كل هذا تحت لافتة عريضة تنادى بموت السرديات الكبرى وانتحار الأيديولوجيات ومصرع الأطر الحاكمة، ونهاية النماذج الإرشادية.
وقد شق هذا التيار طريقاً وسيعاً فى مجال الإبداع الفنى طيلة العقود التى خلت، وأعطى ظهره للأعمال التى خلفها الرعيل الأول أو تلك التى أنتجها الخلف متأثرين بسلفهم، أو ما جاد بها التلاميذ على خطى أساتذتهم. وبعض هؤلاء، حتى من كبار الأدباء، اضطر إلى أن يحول وجهته، أو بعضا منها، وسار على درب تلاميذه، مستلبا لهم أو متجنبا لهجائهم أو مقتنعا بمسلكهم أو معتقدا فى أن المستقبل هو لهذا النمط من الكتابة وليس غيره أبدا.
وحاول بعض النقاد أن يضع أساسا نظريا أو اقترابا معرفيا لهذا الدرب، عطفا على ذلك الذى جاءنا من الغرب شبه مكتمل. وكان على رأس هؤلاء الروائى والناقد إدوارد الخراط الذى وصف هذا النوع من السرد بـ«الحساسية الجديدة»، واحتفى فى إفراط بكل إبداع ينتمى إلى تلك الطريقة، ونبذ كل من يبتعد عنه أو يلتزم بدرب الآباء والأجداد، بدعوى أن هذه «كلاسيكيات» يجب هجرها، لتوضع فى «تاريخ الأدب» وتنام على أرفف الزمن، لا تتداولها الأيدى ولا تطالعها العيون ولا تتذوقها الأفئدة، وتكون نسيا منسيا.
ولاشك أن النزعة إلى التجديد مطلوبة، والتمرد على السائد والمألوف ضرورة، ورفض تحويل الأدب إلى وعظ أو منشور سياسى أو خطاب أيديولوجى واجب، لكن الاعتقاد فى إمكان استغناء الشكل عن المضمون خبل وخطل وادعاء، وتصور أن ما خطه الآباء فى الرواية والقصة قد فات أوانه جهل، والحديث عن أن الأديب يمكن أن يكتب من فراغ أو يبدأ من الصفر زيف وتكبر وتجبر فى آن.
لقد قرأنا ذات يوم على صفحات أخبار الأدب واقعة اغتيال ثانية لنجيب محفوظ، فالأولى كانت خشنة عنيفة حين طالت عنقه طعنة سكين من يد شاب متطرف لم يقرأ له حرفا، والكل يعرفها ويذكرها. والثانية ناعمة وأشد عنفاً حين قال أديب مصرى شاب لم ينتج سوى رواية واحدة عابرة: «لم أقرأ شيئاً لنجيب محفوظ ولا حاجة لنا لمعرفة أى شىء عن رواياته وقصصه، فقد فات أوانه ولم يعد له بيننا مكان» وهذه لا يعرفها إلا قلة ولا تذكر إلا قليلا.
ولا أريد هنا أن أُذّكر بالحكمة السابغة التى تقول: «من جهل شيئاً عاداه» ولا بالبقاء المستمر والمغالبة الدائمة التى تتمتع بها أعمال شكسبير وبلزاك وتولستوى، بل أشير إلى أن نجيب محفوظ نفسه، الذى سيظل يُقرأ بعناية وشغف فى الأزمنة المقبلة، كان مهتماً بتجديد أدبه، فى الشكل والمضمون، ولم يكن أبداً بعيداً عن كل مستجد، إذ كان يطالع باستمرار إبداع الأدباء الشبان الذين كان يلتقيهم بانتظام فى ندوته الأسبوعية، ويصطحب بعض مخطوطاتهم إلى بيته ليقرأها بعمق ويبدى ملاحظاته عليها، وكان يطالع الآداب العالمية فور صدورها مترجمة كانت أم باللغة الإنجليزية، التى كان يجيدها.
وفى هذه الفعالية المهمة سرد أدباء كثر تجاربهم الإبداعية، بدءا من لحظة الإشراق والانشغال والافتتان، ثم أيام التكوين، وصولا إلى حالة النضج، فعرفنا كيف أن سطورهم مسكونة بقرائح الآباء وأذواقهم ومواجيدهم، بل إن بعضهم لم يتركنا حائرين موزعين على الاستبطان والاستنباط والاستقراء أو حتى التكهن والتخمين، بل راح يعترف بفضل السابقين عليه. فما سمعناه من سعيد الكفراوى وواسينى الأعرج وليلى العثمان وعبدالرحمن مجيد الربيعى وأمير تاج السر وفؤاد قنديل ومبارك الصادق وشيرين أبوالنجا والمجذوب العيدروس وزينب بليل وبشرى الفاضل فى حضور نقاد كبار على رأسهم الدكاترة على الأمين وأحمد درويش ومحمد المهدى بشرى وإبراهيم الفاضل، برهن على هذا بجلاء، ودون مواربة أو ترك أى نافذة مفتوحة نحو التنصل من أن للتلاميذ أساتذة، وللتناص مكانه فى الشعور واللاشعور على حد سواء، وأن أحدا ليس بوسعه أن يطلب إعادة «اختراع العجلة» وإن كان من حقه أن يطور إمكاناتها وشكلها من دون أن ينزلق بها بعيدا عن وظيفتها الأساسية التى صنعت من أجلها.
وكل هؤلاء وغيرهم من المعلقين والمعقبين والمتداخلين اعترفوا أن الثورات قد فعلت بهم الكثير، إذ رسخت أقدام من لم يفارقهم الإيمان بالقضايا الكبرى، ووضعت أقدام من فارقهم هذا الإيمان أو لم يدخل قلوبهم وعقولهم أبدا من قبل على أول الطريق. وقد بان للجميع أن الشعوب العربية ليست حقل تجارب للأدباء يلتقطون منها ما يصلح أبطالا لقصصهم ورواياتهم، بل هى الملهم والمعلم والمرجعية وهى النص الأصلى واللوحة الأساسية التى تغطى كل الجدران.
|