التاريخ : السبت 03 march 2012 03:40:21 مساءً
من الحكايات المكررة التى كان يقصها على أسماعنا كوادر جماعة الإخوان أيام الجامعة تلك التى تقول إن أسداً جائعاً وجد أمامه ثلاثة ثيران أبيض وأسود وأحمر، وأدرك أنه لو هجم على أحدها فجأة فقد تتكالب عليه وتفترسه بقرونها المسنونة وأرجلها الغليظة، فخلص إلى الأسود والأحمر وأقنعهما بأنه لابد أن يسد جوعه، وأن الثور الأبيض يكفيه، وعليهما ألا يتضامنا مع زميلهما حين يهاجمه فوافقا. وبعد أن أكل الأبيض استدار إلى الأسود فى اليوم التالى، وكرر عليه الحجة ذاتها فوافق له أن يأكل الثور الأحمر، وفى اليوم الثالث وقف أمام الثور الأحمر الذى بقى وحيدا، وقال له: اليوم سآكلك، فابتسم الثور بحسرة، وقال: لقد أكلت يوم أُكِل الثور الأبيض.
كان الإخوان لا يملون ولا يكلون من سرد هذه الأمثولة ليقولوا للشباب إننا نؤكل اليوم فإن تركتمونا ستؤكلون غدا، وكنا فى منتصف الثمانينيات بعد سنوات قليلة من أيام تمكينهم على أكف نظام السادات، قبل أن يركلهم مبارك ويحصرهم فى ركن قصى، ولذا كنا نبتسم لهذه الحيلة، لكننا تعاطفنا معهم من منطلق وطنى وإنسانى، وطالبنا بأن تظللهم الشرعية السياسية والمشروعية القانونية، ورفضنا اعتقالهم المتكرر، وتحويل قادتهم إلى محاكم عسكرية، وعذرناهم كثيراً حين وجدناهم واقفين طوال الوقت على باب السلطان، لا يتوقفون عن طرقه لعله ينفتح لهم، وقلنا: توجعهم المحنة ولا يريدون أن يتمادوا فى الخصام فينقصم ظهرهم بضربة موجعة من سلطة مستبدة جبارة لا ترحم أحداً، وحين قال مرشدهم السابق: «أتطلع إلى مقابلة مبارك وليس لدى مشكلة مع ترشيح نجله رئيساً للجمهورية» قلنا: كلام دبلوماسى عابر لا يعول عليه ولا يفسر إلا فى سياقه، وحين قال «طز فى مصر» و«ليس لدى مشكلة فى أن يحكمنا رجل من ماليزيا» عاتبناه بلطف وقلنا: انفعل الرجل، فبان بعض المستور، لكننا نراهن على أن هذا سيتغير مع الزمن، وسيقدم الإخوان الوطن على الفصيل والمجتمع على الجماعة.
وحين تأخروا عن «انطلاقة الثورة» فلم يتخذوا قراراً تنظيمياً بالمشاركة فى يوم 25 يناير 2011، وتركوا حرية المشاركة لأفراد منهم بصفتهم الشخصية. قلنا: تقديراتهم تبين لهم أن النظام يستهدفهم، وإن بدأوا سيفترسهم، ولأنهم الأكثر تنظيما وتمكينا فسيكونون الأعلى دفعا للثمن، وحين جاءوا فيما بعد وخاضوا غمار الثورة معنا قلنا: بهم تكتمل اللوحة الوطنية وبسواعدهم يقوى الكفاح، وجالدوا معنا، رغم ذهابهم للجلوس على مائدة عمر سليمان، وطوال 18 يوماً هى عمر الموجة الأولى من ثورتنا تفهمنا رغبتهم فى أن يتواروا إلى الخلف قليلاً حتى نحرم مبارك من استخدام فزاعتهم فيقف الغرب إلى جانبه.
وعقب الإطاحة بمبارك تابعنا تصاعد النسبة التى طرحوها للترشح إلى مجلس الشعب من 30 فى المائة إلى 45 فالنصف ثم الكل، وقلنا: هذا حقهم فى أن يترشحوا على كل المقاعد مادامت المنافسة متكافئة والانتخابات نزيهة، وليس ذنبهم أنهم الأكثر تنظيما، والأغنى مالا من بين القوى السياسية الحاضرة، وسمعنا فيما بعد تسريبات عن تفاوضهم السرى مع المجلس العسكرى حول الدستور الجديد لا سيما فى المواد التى تحدد شكل نظام الحكم ووضع المؤسسة العسكرية، وتحديد رئيس الجمهورية المقبل، وقلنا: هذه مجرد تخمينات لا برهانا ساطعا قاطعا عليها، وإن ظهور أى مؤشرات على ذلك فى السلوكيات والتصرفات على أرض الواقع يعزز هذه التخمينات، لكن لا يعنى أن هذه مسألة مقطوع بها، وليبق كل شىء تحت الرقابة والمتابعة حتى يتبين الحق من الباطل.
ثم رأينا أداءهم المقيد المخنوق فى مجلس الشعب، وتملصهم من تقنين وضع جماعتهم التى لا رقابة عليها ولا محاسبة لها، وكأنها دولة داخل الدولة، وقلنا: يتحايلون على العسكر حتى يزيحوهم تدريجيا من السلطة، لكن هذه الحسابات الصغيرة أنستهم «حكاية الثور الأبيض» ومكر التاريخ، فالطامع أعمى، والأنانى أصم، والممسوك عليه ذلة خائف طيلة الوقت ومفرط فى كل شىء.
لقد أحزننى أن أسمع هتافات فى ميدان التحرير تقول: «بيع بيع.. الثورة يا بديع»، وأوجعنى أن يقول بعضهم إنها «جماعة الإخوان العسكريين»، وأفزعنى أن يدعو الإمام عليهم فى صلاة الغائب على روح الشهداء فيقول: «اللهم عليك بالعسكر الذين خانوا الثورة وعليك بالإخوان الذين باعوا الثورة»، وأضنانى أن يردد المتظاهرون المطالبون بتسليم السلطة إلى مجلس الشعب أمام درع رصها شباب الإخوان أمام المجلس وبصحبة الأمن «يا بلدى شوفى وركزى.. إخوان مع أمن مركزى».
لم أكن أود أبداً أن يأتى اليوم الذى يحدث فيه هذا، وتعاطفت كثيراً مع بعض شباب الإخوان وهم يصرخون: «إيد واحدة»، وعلى وجوههم حيرة وأسى، وأتمنى أن يفسر لهم ولنا قادة الجماعة لماذا وصلنا إلى هذا الأمر؟ وهل ما يردده الناس مجرد أوهام أم هناك ما يدل عليه ويبرره؟
وها هو النبيل المحترم «أبوالفتوح» يُضرب وُيسرق وبعده بساعات يتعرض «البرنس» لمحاولة اغتيال، ويتمخض قادة الجماعة فيتهمون «أبناء مبارك»، وفى ركاب هذا يتغافلون، ليس جهلاً إنما بحرص يذل أعناق الرجال، عمن يحتضن المعتدين ويشجعهم ويقودهم سراً.
يا إخواننا متى تتعلمون أن الحرية الحقيقية والحماية التامة هى فى الرهان على الشعب، لأنه أدوم وأبقى وأطهر وفى قلب الدين؟ يا إخواننا: أليس كل هذا بفعل الجزء الذى لم يسقط من النظام وتتفاهمون معه على حساب مستقبل هذا البلد؟ يا إخواننا لم تنزفون سريعا؟ إنكم الأكثر تنظيماً وتمكيناً وشرعية الآن فلم لا تحملون بقوة وجدية مطالب الثورة التى رفعتكم؟ أدعوكم الآن أن تغمضوا عيونكم وتقصوا على أنفسكم حكاية «الثور الأبيض».
|