التاريخ : الجمعة 09 march 2012 05:41:41 صباحاً
حينما ينطق متحدث بلفظ الفضيلة يتجه تفكير أغلب السامعين إلى قصص الدعارة والعلاقات غير المشروعة، فتغلى الدماء فى عروقنا، ونتحفز للدفاع عن الشرف الذى قامت من أجله حروب وسالت من أجله دماء.. أمر لا يختلف أحد على أهميته، ولكنه ليس الوجه الوحيد للفضيلة. دارت هذه الأفكار فى رأسى، وأنا أرصد اقتراب تشكيل لجنة صياغة الدستور الجديد الذى نحرص جميعًا على أن يكون حجر الأساس فى بناء جمهورية مصر (الطبيعية) التى أدعو الله أن يمد عمرى كى أساهم فى تأسيسها، وأنعم بها ولو ليوم واحد.
ليست المرة الأولى التى أستخدم فيها هذه الصفة (الطبيعية)، فنحن لا نحلم بالمستحيل، ولا نريد أن "ندهن الهوا دوكو"، فقط نريد دولة طبيعية، أعلم يقينًا أنها لن تتحقق ما لم نتخلص من كافة أوضاعنا الشاذة. مهم جدًّا أن ننشغل بنظام الحكم وقيامه على الإرادة الشعبية وحدها، ومهم أن يخلو الدستور الجديد من أى أوضاع خاصة أو ضمانات للعسكريين أو المهندسين أو غيرهم... ولكنه مهم أيضًا أن ينص الدستور الجديد عل تجريم كافة الأنشطة الاقتصادية غير المسجلة.
إنه عار كبير علينا جميعًا أن تؤكد تقديرات ودراسات حديثة أن نسبة الاقتصاد السرى تقترب من نصف النشاط الإجمالى. ونتعجب مما نعانيه من فقر!! إنها أفضل وصفة لتخريب اقتصاد أى دولة، ونشر كافة أشكال الانحراف المالى فيها. وكما هو معروف، فإن الانحراف المالى هو الأب الروحى لكل الانحرافات الأخرى. يبدأ تهاوننا بقبول فكرة الباعة الجائلين ومفترشى الأرصفة، جرجير طازج وفجل وخبز بغير طوابير، وفى الإشارة مناديل وليمون وفل وياسمين... تعودنا على هذه الصور واتُّهِمتُ كثيرًا بأنى قاسى القلب حينما تحدثت عن أن استهانتنا بهذه الصغائر هى التى أدت إلى ظهور كيانات عملاقة تمارس أنشطة تجارية بالملايين بعيدًا عن الأوراق والروتين، يعنى (مكبرين) لا ضرائب ولا وجع دماغ!!
كانوا وما زالوا يتحججون بالفساد والنظام العفن، ويقيمون على ذلك مائة دليل. قامت الثورة، والله العظيم قامت بمصر ثورة، وهى أعظم فرصة لإجراء كافة التحولات المنشودة، أم أننا لم نكن نقصد إلا وقف احتكار العسكريين للحكم، وإنهاء الممارسات القمعية للداخلية، ومطاردة شركات الدعارة والمخدرات؟
نريد القضاء على كافة أشكال الاستثناءات واسمحوا لى أن أستعرض معكم بعضها، غير مبالٍ بمقدار الصدمة الذى تحدثه هذه الآراء لدى البعض، أقول –وأجرى على الله-: إنى أتمنى أن نتخلص تمامًا من كل أشكال الرشوة، حتى وإن اقتضى ذلك إلغاء (البقشيش) قانونًا، وقبل أن ينفعل أحد ويتهمنى بالجهل، أقول: إنى مدرك أن العديد من الوظائف تقوم على فكرة البقشيش، كالعاملين فى المطاعم ومحطات البنزين وغيرهم. أعلم ذلك، ومع هذا لا أرى سببًا فى التمسك بـ"البقشيش" والبديل موجود، ولا يحتاج إلا إلى بعض التعديلات التشريعية التى تسمح بإضافة نسبة زهيدة أو كبيرة على قيمة أى خدمة تؤدى من إنسان إلى إنسان، يحصل عليها المستحق بكرامة وفى إطار رسمى مسجل. أعرف أنى أتحدى طاقة رفض التغيير لدى الكثيرين، ولكنى أدعوكم إلى العودة بالذاكرة إلى أيام الطفولة البريئة والعيدية التى كنا نحصل عليها أيام الأعياد. أَتذكَّر أننا كنا نحصل على جنيه واحد أو بضعة جنيهات قليلة، أما حينما يظهر أحد أثرياء العائلة ليفرق الأوراق الحمراء، وأعنى بها أوراق العشرات، فقد كان ذلك هو الاختبار الحقيقى: (خالو...) بلا شك أفضل من (جدو...)، وهو يحبنا أكثر، بدليل أنه يوزع المال علينا بسخاء، أليس هذا صحيحًا؟
حاولوا أن تتذكروا.. أما أمى وأبى –يرحمهما الله- فقد كانا يتصديان بمنتهى القوة والإصرار لمحاولات الاختراق العاطفى القائمة على ارتفاع قيمة العيدية. كنا نساندهما وهما يردان الأيادى الممتدة لنا، فى البداية كنا نشعر بحسرة على ضياع تلك الأموال، ثم تحولت مشاعرنا إلى عزة (بكسر العين)، لا أنسى أبدًا حلاوتها.
أما ما تتعرض له الأرض الزراعية من عدوان ليل نهار، فهو أمر يجب أن يعامل فى الدستور الجديد معاملة القتل، وهى ليست مبالغة، لأن الإنسان لا يمكن أن يحيا بغير الزراعة التى توفر له الغذاء.
وأختم بالماء، وأؤكد أن الحفاظ عليه فضيلة، كما تعلمنا من حكايات المربية الفاضلة"أبلة فضيلة".
|