التاريخ : الأحد 01 april 2012 12:26:48 مساءً
تذكرت أبى عبد المنعم الصاوى، ودعوت له بالرحمة وأنا أستعيد صورته وصوته مترافعًا دفاعًا عن الكلمة وقيمتها ومعانيها العديدة... لم يكن أبى وحده الذى ينحاز للكلمة، فقد شاركه من أبناء جيله الكثيرون ممن رحلوا تاركين تراثًا رائعًا كالأديب والشاعر الكبير عبد الرحمن الشرقاوى يرحمه الله ويثيبه بكل حرف وكلمة وعبارة وشطرة بيت صاغها إعلاءً للكلمة ووزنها لدى من يحترمون أنفسهم.
أتناول "الكلمة" الآن بمفهوم العهد الملزم.. الكلمة لدى الشرفاء من التجار عهد.. الكلمة تخرج من تجويف الفم لتستقر على لوح الأمانة.. يشعر بذلك كل سوىٍّ مستقيم السلوك منسجم المشاعر.
أما من يلقون بالكلمة بغير اكتراث بقيمتها، فهم –فى تقديرى- أسوأ ممن يُزَوِّرُونَ التوقيعات، ويحررون شيكات يدركون أنها لن تُصرف.
أحمد الله أن وهبنى أبًا من أصحاب الكلمة، كذلك كانت أمى –يرحمهما الله-.. علمانى وإخوتى التمسك بالكلمة، وقد نجحت فى تطبيق الدرس فى عدة اختبارات أذكر منها موقفًا ما زلت أعتز به:
كنت عضوًا منتخبًا فى مجلس إدارة نادى الجزيرة.. تصاعدت أزمة فى النادى بشأن بعض الإنشاءات، فاتخذ المجلس موقفًا كريمًا بالدعوة لجمعية عمومية لطرح الثقة فى المجلس على أعضاء النادى، ليحصل على تجديد لتأييده أو إعفاء من مسؤولياته وانتخاب مجلس جديد.
كنت سعيدًا بانتمائى لمجلس يأبى أن يبقى فى موقعه وقد تشكك ناخبوه فى جودة أدائه.. تم الإعلان عن موعد الجمعية العمومية فى جريدة الأهرام، وعلى جدران المبانى داخل النادى.. بدأ أعضاء المجلس فى الحشد لتأييد موقفهم حتى ذهبت يومًا لحضور اجتماع مجلس الإدارة لأرى ملامح التوتر قد تبدلت بفرحة ظاهرة فى عيون أغلب الأعضاء، قلت: خير؟ أجابوا: اكتشفنا أن القانون يسمح لنا بإلغاء الجمعية العمومية التى دعونا لها.. قلت بدهشة: "يعنى نرجع فى كلامنا؟" صمتوا.. وصمتُّ أنا أيضًا لأعود بحسرة: للأسف.. لقد ماتا!! تعجبوا، ونظروا إلىَّ وكأنى جننت وبدأت أهذى بكلام غير مفهوم، فوجب علىَّ التوضيح؛ قلت: ماتا –أبى وأمى- قبل أن يعلمانى "الرجوع فى الكلام".. أكملت: والله، لو كان سحب الثقة لا يعنى فقط ترك المجلس، وإنما الشنق، ما رجعت فى كلامى، وما ترددت فى الصعود بنفسى إلى المشنقة..
استأذنت مدير النادى لأسحب ورقة، وأكتب استقالتى من المجلس، وألقى تحية الانصراف.
حاولوا بعدها إثنائى، فتأكدت أنهم بالفعل لم يدركوا دافعى للاستقالة! إنها الكلمة التى أعلم قيمتها، وأعلم أنها أغلى من حياتى.
تذكرت ذلك وأنا أتأمل الكثيرين ممن يعملون فى المجالين: السياسى والإعلامى، ووجدتنى أُحَدِّث نفسى بما اعتدت أن أطرحه من أفكار تدور كلها حول أهمية الثقافة فى حياتنا:
أما أن تتقدم حكومة الدكتور الجنزورى ببيان منزوع الثقافة، فهذا خطأ لا يُغتفر، ويؤكد أن هذه الحكومة لا تعرف أولوياتها ومسؤولياتها.
لست من الداعين للإطاحة بالحكومة أملاً فى تحقيق نصر سياسى، وتأكيد قدرة مجلس الشعب على التصدى لأوجه القصور الشديد فى أدائها، ولكنى مصر على عدم تأجيل الاهتمام بالثقافة، وتطوير أحوالها حتى تجاوزنا لمرحلة الجنزورى.
أشفق كثرًا على وزير الثقافة الذى أثبت عجزه عن الوفاء بوعود تطهير الوزارة وتصحيح الصارخ من عيوبها والفج من تراثها الإدارى القائم على الهوى قبل أى معيار آخر!! لقد أعطانى هذا الوزير "كلمة" أمام لجنة الثقافة والإعلام والسياحة بمجلس الشعب، حيث تعهد بالقيام فورًا بالإعلان عن المناصب الكبرى بالوزارة، ووقف كل الانتدابات المشبوهة التى يتم التحايل بها على شروط السن وغيرها من معايير الشفافية والنزاهة...
هل يمكن أن يصدر الدكتور الجنزورى –متعه الله بالصحة والعافية- وهو على أعتاب الثمانين قرارًا يلزم به كل وزاراته بإلغاء كافة التجاوزات السنية للعاملين بالدولة، وفتح المجال للشباب من أبناء الوزارات وليس المنتدبين بحجة الخبرات الخارقة؟
الكلمة يا وزير الثقافة سيف على رقاب الشرفاء –وأظنك منهم-، ففيم الانتظار؟ لديك فرصة ذهبية لأن تضرب المثل فى التطهير والتطوير فى وزارة يشهد أبناؤها بمدى تلوثها وتفكك هياكلها!
فلتكن البداية بحفظ الكلمة يا وزير الكلمة، وليكن منهج حكومة ما بعد الثورة ألا يتولى أحدٌ أى منصب إلا من خلال إعلانات حقيقية واختبارات جادة ومحايدة.
أرجو ألا أقرأ إعلانًا يقول: مطلوب رئيس للإدارة يبدأ اسمه بحرف الألف!
وأتمنى أن "يكبسنى" الجنزورى ووزير الكلمة!
|