التاريخ : السبت 21 april 2012 02:11:06 مساءً
لا تخطئ عيناك أبداً، إنك ذاهب إلى أكبر دولة مسلمة على وجه الأرض، حين تقتحمها أجساد ضامرة لنساء ملفوفات فى ملابس وسيعة فضفاضة تملأ صالة الانتظار بمطار الدوحة، لكن حين تحط الطائرة فى مطار جاكارتا وتنطلق الحافلة فى شوارعها الوسيعة النظيفة، التى تمرق بها سيارات يابانية من أنواع مختلفة، ترى عالما آخر متنوعا، فيه رجال قصار فى الغالب الأعم ونساء سافرات ومحجبات، وبيوت ذات أسطح مائلة تستقبل مطرا طوال السنة تقريبا، وبنايات شاهقة، تحتضن متاجر دشنتها العولمة، لتجذب الطبقتين العليا والوسطى، وتفتح باباً للاغتراب فى بلد يتسم أهله بالبشاشة والسماحة والسكينة والإقبال المفرط على الحياة.
أنت هنا أمام تجربة شبيهة بالتجربة المصرية فى الستين سنة الأخيرة، وليس بالطبع فى آلاف السنين التى دب خلالها الآدميون على ضفاف النيل، سوكارنو يقابل عبدالناصر، حيث الاستقلال والبناء والعدل الاجتماعى والأحلام العريضة والاستبداد المقنع، وسوهارتو يقابل مبارك حيث التبعية والعجز والفساد والطغيان والترهل، الأول قامت ضده مظاهرات تطالب بالإصلاح فى عام 1998 فأسقطته وبقى نظامه، لكن إصرار الناس على تحصيل الأفضل فى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية حول الثمار إلى ثورة كاملة، لاسيما بعد الخروج التدريجى للجيش من الحكم، أما الثانى فقامت ضده ثورة عظيمة عام 2011 فسقط أيضا وبقى نظامه يحاول أن يحول ثمارها إلى حركة إصلاح متدرج، لكن الحكم على النتائج النهائية والكلية ليس الآن بأى حال من الأحوال.
ذهبت إلى جاكارتا للمشاركة فى مؤتمر عن «الإسلام .. الدولة والسياسات» بدعوة من «معهد السلام والديمقراطية» التابع لجامعة أوديانا، فسمعت من أساتذة العلوم الإنسانية هناك شهادات وإفادات مبهرة عن «التمازج بين الإسلام والثقافة التقليدية»، وعن الدولة «اللاعلمانية واللادينية التى تعطى الدين وزنه فى الحياة وليس فى السلطة»، التى يثبت وجودها على سطح الأرض فى حد ذاته كذب مفهوم «الدولة الحارسة للدين»، و«قوة الدين فى حد ذاته كى يحرس نفسه»، إذ إن الإسلام لم يدخل إلى إندونيسيا بالفتوحات إنما جاء فى ركاب التجارة والتسامح وقوة الحجة وصفاء العقيدة، فدافع عن نفسه دون وصاية من ملك أو سلطان أو أمير.
هناك تجد التدين ظاهرا فى سلوك الناس وليس فى أزيائهم وادعاءاتهم رغم أن «الشعب الإندونيسى لا يعتبر الإسلام أساساً لقيام الدولة»، وفى الوقت ذاته لا يجد غضاضة فى «تطبيق بعض أقاليم الدولة للقوانين الإسلامية»، لكن بشكل عصرى بعيداً عن أضابير الكتب القديمة وخلافات فقهاء الزمن الغابر، وبصيغة تتعانق فيها الثقافات المحلية مع مقتضيات الشرع فى انصهار عجيب، وبطريقة تحول فيها الدين إلى طريق لحل المشكلات لا وسيلة لخلقها.
تركت «المول» و«الفندق» وعبرت شارع واحد إلى الأحياء الفقيرة جداً فى جاكارتا، بسطاء وفقراء لكن الحوارى نظيفة مرصوفة، وبنات يركبن دراجات بخارية ولا يؤذيهن أحد بكلمة خادشة للحياء أو نظرة وقحة، وشجر خفيف يحط على البيوت الخفيضة، وفى كل مكان لا تجد سوى الابتسامة العذبة ولا تشعر بغربة أبداً.. الإسلام ذائب هنا فى نفوس الناس دون طلاءات ولا زيف ولا تمسك بالمظاهر الخادعة والقشور الهشة، وصوت أذان الفجر فى أندونيسيا يبعث على الخشوع والسكينة، عذوبة الصوت بالنغمة المصرية الأصيلة بنت مدرسة الأزهر العظيمة التى وضعت بصمتها هناك فى قلب البحار البعيدة.
وفى إندونيسيا يتجاوز أعضاء جمعية «نهضة العلماء» الإسلامية 45 مليون عضو و«المحمدية» نحو 35 مليون عضو، لكنهما لا تلزمان أتباعهما بالتصويت فى الانتخابات لصالح أحد بعينه، لأنهما تؤمنان بحرية الفرد، ولا تجبرانه وفق مبدأ «السمع والطاعة» الذى يسلبه إرادته وقراره، وينصرف جهد هاتين الجماعتين على تحقيق الامتلاء الروحى والسمو الأخلاقى والتماسك الأسرى والنفع العام أو العمل الخيرى.
وتسعى الدولة، التى تتكون من 13 ألف جزيرة عائمة فى المحيط الهادى، إلى جعل تنوعها مصدرا للقوة وليس للضعف والتفكك، ولذا كان عليها أن تبدع صيغة تحكم علاقة مستقرة بين سكانها الذين ينتمون إلى 300 عرق ويتحدثون 250 لغة ويدينون بعدة أديان أولها الإسلام، ويدين به 86.1%، ثم البروتستانت 5.7%، والكاثوليك 3%، و1.8% هندوس، و3.4% يعتنقون معتقدات أخرى. ومن أجل المحافظة على وحدتها صاغ الرئيس سوكارنو عام 1945، وعقب انتهاء الاحتلال اليابانى مباشرة، مبادئ خمسة لتحكم دستور الدولة يسمى «البانكسيلا» التى تعنى بالعربية «كلمة سواء» جاءت على النحو التالى:
- الإيمان بإله واحد. - إنسانية عادلة ومتحضرة. - وحدة إندونيسيا.
- الديمقراطية تقودها الحكمة الداخلية فى توحد ناشئ من المداولات بين الممثلين. - العدالة الاجتماعية لجميع أفراد الشعب الإندونيسى.
ولا تعرف الحياة السياسية الإندونيسية فى الوقت الراهن أى احتكار، فالانتخابات التى جرت فى 9 إبريل 2009 توزعت فيها حظوظ الفائزين بشكل فيه قدر كبير من التوازن، فالحزب الديمقراطى لم يحصل سوى على 20.9%، وبعده جاء حزب جولكار بـ14.5%، وهكذا..
وتجرى الانتخابات فى سلاسة تامة، إذ إن عدد المقترعين فى اللجنة الواحدة لا يزيد على 300 شخص، ويشرف عليها سكان كل منطقة بأنفسهم، فى شفافية تامة، ويتوجب على المرشحين للرئاسة أن يمروا باختبارات طبية دقيقة، بما فيها اختبار الذكاء، بعد أن ابتليت البلاد برئيسة غير متعلمة ورئيس شبه ضرير عقب سقوط سوهارتو. لقد تحدث الإمام محمد عبده حين ذهب إلى أوروبا فى نهاية القرن التاسع عشر عن أنه وجد «إسلاماً بغير مسلمين»، وفى إندونيسيا هناك «إسلام بمسلمين»، ينصرف إلى الجوهر ويتفاعل مع مقتضيات العصر، فلا تجد الشوارع مزدحمة بأصحاب اللحى ومرتديات النقاب، بل تجدها عامرة بالسلوك القويم والرضا والاعتزاز بالدين والرغبة المتجددة فى تحسين شروط الحياة.
|