التاريخ : الاثنين 13 june 2011 04:19:38 مساءً
كنت أرغب في التجاوز عن استفزازات الخطاب “الإخواني” المتكررة التي تحرف الحوار الوطني بين القوي السياسية عن هدف صياغة المستقبل السياسي والاقتصادي لمصر ما بعد ثورة 25 يناير وتقدمها “لقمة سائغة” للمتربصين، بل إني كدت أكتب مؤيدًا لموقف الجماعة الذي أعلنته قبل أيام من مبادرة للوفاق مع التيارات السياسية المختلفة والتقدم للانتخابات البرلمانية المقبلة بقائمة موحدة دون اشتراطات مسبقة والتجاوز عن حديث النسب والأوزان المسبقة الذي أثار شكوك وريبة العديد من القوي تجاه النويا الإخوانية، إلا أن سيل التصريحات المستفزة من قيادات ورموز الجماعة حتي بعد صمت صبحي صالح المؤقت أعادني إلي المربع “صفر” مرة أخري.
للأسف يضن علينا “الإخوان” بلحظات ثقة واطمئنان إلي خطابهم، فبعد أن وصلوا بنا إلي “سابع سما” بمبادرتهم هبط بنا خطاب المرشد حول غضب السماء الذي استنزله الإخوان علي نظام الحكم في مصر منذ “عبدالناصر” إلي “مبارك” بسبب اضطهاد الجماعة ثم تصريحات القيادي الدكتور محمد البلتاجي حول قدرة “الإخوان” علي إنتزاع أغلبية ساحقة في الانتخابات البرلمانية بل وإنتزاع الرئاسة نفسها لو أرادوا إلي أسفل سافلين!
إنه خطاب “الاستعلاء النخبوي” الذي يذهب بالإخوان إلي حد “الهوس” الذاتي و”التية” بالقوة الذي يدفعهم إلي التعالي علي المنافسين وشركاء المواجهة ضد الطغيان، وهي حالة مضادة لروح الثورة لأن “خطاب الاستعلاء” هو خطاب “استبعادي” ينظر إلي الآخر من فَوق ولا يراه جديرًا بالمنافسة أو حتي المشاركة دون إلتفات إلي أي معايير موضوعية، وأن عليه أن يقبل صاغرًا “هبة” أو “عطية” الأقوي!! وهو ما إضطرني اليوم إلي الكتابة عن ملامح هذا الخطاب.. وكيف أنه خطاب “أزمة” ينقطع عن الواقع ويعبر عن أوهام “ضلالية” كما هي الحالة الذهنية لمريض “الشيزوفيرنيا” فهو ينتقل من حال إلي حال ويخلق ويختلق “فزاعات” لا وجود لها في الواقع.. وأنا لا أقصد الإساءة في هذا المقام إلي قادة الجماعة، بل واحترام بعض آرائهم، ولكن يزعجني كثيرًا أنهم لا يدركون خطورة التشبث بهذا الخطاب وما يصطنعه من أزمات يمكن تفاديها من أجل “كلمة سواء” يحتاج إليها هذا الوطن الذي يمكن أن يكون وطنًا للجميع لا يضيره من يملك الأغلبية داخل البرلمان لأنه يعرف أن صالح الوطن هو “قسمة متساوية” وليس حكرًا علي أحد يحدده كيفما شاء.
يجب أن يعرف “الإخوان” وغيرهم أنهم متي دخلوا معترك السياسة صراحة عن طريق تأسيس حزب سياسي يستهدف السلطة أنهم لم يعودوا سوي فصيل سياسي له ما لغيره من هوية لا علاقة لها بـ“قدسية” الدين، وأن انتقاد سلوكهم أو أدائهم السياسي ليس بحال من الأحوال انتقاد لـ “المقدس”، ومن ثَم يسقط “الاستعلاء” وهو ما يرفض الاخوان قبوله، لان سقوط هذه النزعة يرتبط بقناعات الاخوان حول العملية السياسية.. فالارتباط بـ»المقدس» وهو الدين، ورفع شعار “الاسلام هو الحل” مبرراً كافياً للانفراد بالسلطة ومن ثم تبني “خطاب الاستعلاء” مع انه لا يحق لاحد احتكار “الاسلام”، ولا يجوز للدين ان يكون مطية للصراع السياسي.
ولنتأمل فيما يلي قناعات هذا الخطاب السياسي الذي يري صاحبه انه يتمتع بامتياز استثنائي، وبالتالي فهو يرفض اي حديث عن المساواة، ولهذا فإن “البلتاجي” يقول إنه لو أراد الإخوان الاغلية في البرلمان لفعلوها و”لو ارادو الرئاسة لحصلوا عليها”! قد يكون “الإخوان” أكثر تنظيم من أي فصيل سياسي الآن علي الساحة ولكن مثل هذا “التيه” يبعث علي شق الصف الوطني ويصادر علي إرادة الناخبين التي لم تختبر بعد، وهو ينطوي علي الكثير من “الغطرسة”.
“خطاب الاستعلاء” سلطوي لا يقبل الاختلاف في الرأي او الاجتهاد سواءاً خارج الجماعة او حتي داخلها، ولنتأمل الموقف الذي أعلنه قياديو الإخوان من ترشيح الدكتور عبد المنعم ابو الفتوح نفسه للرئاسة، فالتصريحات المتدفقة من اعضاء مكتب الإرشاد أو مجلس شوري الاخوان لم تكتف بانتقاد “أبو الفتوح” أو تجميد عضويته أو حتي فصله بذريعة مخالفة قرار المجلس بعدم الترشح لهذا المنصب، ولكن دعت الجماعة اعضائها إلي عدم التصويت له أياً كان المرشح المنافس أمامه! مثل هذا الموقف لا يري أن هناك اي سلطة تعلو علي سلطة المرشد والجماعة بالرغم من التشدق بانفصال الجماعة “الدعوية” عن الحزب “السياسي” والمواقف السياسية للإخوان.
“خطاب الاستعلاء” يري ان اصحابه مدعومون إلهياً، وبالتالي لايجوز الوقوف في مواجهة ارادتهم لأنها بمثابة “مشيئة” الرب، ولهذا كما قال المرشد أمام الجمعية الوطنية للتغيير “انتقم الله في حربي 1956، 1967 من نظام جمال عبد الناصر لاعتقاله الاخوان وكذلك فعل بحسني مبارك”، ومن ثم فإن من تسول له نفسه مخالفة الإخوان عليه أن ينتظر عقاب السماء!!
هل يمكن الثقة في أصحاب هذا الخطاب عندما يتحدثون عن “الدولة المدنية” أو “الديمقراطية”، أو “حرية الاختلاف”، أو “حقوق المواطنة”؟! مثل هذه المبادئ تبدو فقط كوسائل و“ميكانيزمات” للتكيف السياسي، خاصة أن الجماعة تقيم وزناً سياسياً كبيراً للخارج فهي تعرف كيف تمرر خطابها “الاستعلائي” في الداخل باسم الدين، ولكنها تدرك أن مثل هذا الخطاب لا يصلح للتعامل مع الخارج ولهذا فهي تضيف له مجموعة من “المقبلات” الغربية التي ليست من جنس خطابها ولا تنسجم معه وتريد في هذه المرحلة البرهنة علي التزامها بها، علي سبيل المثال هي تتمسك بعدم ترشيح اي من رموزها لمنصب الرئاسة لطمأنة واشنطن والغرب، فيما يقول قياديوها بملئ افواهم في الداخل انهم لو أرادوا الرئاسة لحصلوا عليها!
لا تعترف السياسة بالصراحة والصدق ولكنها تحاسب عليه وتجمع القوي السياسية رصيدها لدي الناس كلما تقاربت المسافة بين الخطاب والواقع.. غير ان “الاخوان” رغم الفجوة السحيقة بين خطابهم وسلوكهم السياسي يعتقدون انهم قادرون علي اقناع كل الناس طول الوقت بانهم منزهون عن فعل السياسة.. وعلي من يشكك في ذلك انتظار الويل والثبور وعظائم الأمور التي تنزلها به السماء طالما سولت له نفسه ذلك.. واسألوا المرشد.. والله اعلم!
|