التاريخ : الجمعة 01 june 2012 01:46:24 صباحاً
اقترب منى بخطوات هادئة، وسألنى بأدب جم: أتأذن لى بتعطيلك دقيقة واحدة؟ أشرت إلى ورقى الأبيض، وقلت: أهلاً بك.. قل ما شئت، فأنا –كما ترى- لم أبدأ بعد!
حدثنى فيما يتحدث فيه كل مصرى هذه الأيام.. يصغرنى بثلاثين عامًا ربما، ولكنه قادر على إجراء حديث ودى ذى قيمة فى أيام يلجأ فيها الجميع للصوت العالى والكثير من التعبير الجسدى الذى يفسد جو النقاش ويطيح بالأفكار.
اتفقنا على الكثير من النقاط التى مررنا بها بسرعة، ولكنه كان أكثر منى حكمة فيما اختاره لإنهاء النقاش.. قال: أملى أن يأتى من يضع التعليم على رأس أولوياته.. قلت: يومًا ما كتب أبى –يرحمه الله- كتابًا عنوانه "العلم حرية"، وشرح لنا وقتها فلسفة العبودية القائمة على الجهل الذى سعى لنشره وتعميقه نظامنا القائم على القهر والاستبداد وكافة أشكال الفساد.
أنتهز الفرصة لتحية "عمر" الذى اختفى من أمامى بنفس السرعة التى ظهر بها بعد أن شجعته وقلت له: سيكون لمصر بإذن الله مستقبل رائع ما دام فيها أمثالك من الشباب الذين لا يفرطون فى حقوقهم، ويصرون على استكمال أهداف الثورة، وأهمها اقتلاع كافة جذور النظام السابق، الظاهر منها والخفى.
ضرسى لا يؤلمنى، ولم يفعل منذ فترة طويلة والحمد لله، ولكنى تذكرته فجأة وأنا أغوص فى فكرة اقتلاع الجذور.. تذكرت تأكيد أطباء الأسنان الدائم على أن عملية اقتلاع الضرس عملية دقيقة جدًّا، وليس كما تبدو فى المواقف الكوميدية فى السينما أو المسرح.. فاقتلاع الضرس بدون التأكيد من تنظيف الفك من كل أجزاء جذوره وأعصابه يمثل خطورة شديدة ويتسبب فى آلام حادة.. آلام لا تزول أبدًا إلا بالتخلص التام من كل ما ينتمى للضرس الذى تم خلعه بفضل الله وتوفيقه، وبإرادة شعب وتضحيات لا حصر لها وصلت إلى اختيار الشهادة على بقاء الضرس الذى دب فيه العفن مزمن.
درس آخر يعلمه لنا أطباء الأسنان، ألا وهو ضرورة ملء الفراغ الذى ينشأ عن خلع سن أو ضرس، والسبب يسهل فهمه، وهو خطورة الفراغ على جانبيه أو جيرانه من الأسنان أو الضروس التى تسكن فى نفس الصف أو فى الجزء المقابل من الفك.
مكمن الخطر يعود إلى سهولة حدوث تشوهات فى موطن الضرس تؤدى إلى تهاوى وانهيار ما أزيل من الضرس من أجل الحفاظ عليه.. علينا إذن أن نسارع بملء الفراغ بعد أن عانينا طويلاً من فراغات عديدة: فراغ دستورى، وفراغ أمنى، وفراغ رقابى ومحاسبى... مما أدى بنا إلى الوقوف على حافة هاوية متصدعة.
نملأ الفراغات إذن، وما زلنا معهم، مع أطباء الأسنان الذين يوصونك بعدم اللجوء إلى "الاسترخاص" أو القبول بالأنواع الرديئة من الحشو أو الأعضاء الجديدة.
لقد تقدمت العلوم تقدمًا مذهلاً بفضل الله، وأصبح فى مقدور الإنسان أن يتحكم فى مواصفات الخلطة التى يملأ بها الفراغ، فتأتى متينة ومحكمة وقادرة على التعاون مع باقى الأسنان والضروس فى أداء وظائف الفم العديدة، وهى –بلا شك- أكثر كثيرًا من مجرد مضغ الطعام.
أكرر: علينا أن نتخلص تمامًا من جذور الماضى، ونشرع معًا فى تكوين التوليفة الجديدة التى تحقق لنا طموحاتنا الكاملة.
نريد أن نمضغ جيدًا، كما نريد أن يخرج الكلام من تجويف أفواهنا حرًّا واضحًا ليصبح المنطق ولغة الحوار هما أساس التواصل بين الناس.. حكامًا ومحكومين.
أعود إلى التوليفة أو السبيكة أو العجينة، وأقول: يجب أن تكون هذه هى قضيتنا الآن.. وقبل أن أستطرد أتوجه بالشكر لأطباء الأسنان، وأتذكر أحاديث مطولة عن الثقافة، فأجدنى أكرر أن الثقافة هى بالفعل الحل فى هذه المرحلة شديدة التعقيد..
نحتاج إلى تعظيم دور التعليم الذى حدثنى عنه عمر، ودور الثقافة التى بُحَّ صوت الكثيرين وجفت أقلامهم فى تأكيد قدرتها الفائقة عل تصحيح المفاهيم وإعادة صياغة مفردات المجتمع، تأسيسًا على قيمه العليا الراسخة عبر آلاف السنين.
هيرودوت قال: "مصر هبة النيل"، وأجدنى مضطرًّا لمعارضته وتأكيد أنها هبة الثقافة والفنون التى أنعم الله بها على أبناء هذه الأمة المتماسكة رغم أنف كل المحاولات البلهاء والذكية لتقييمها.
مرة أخرى.. أحمد الله على حب الحكمة، وعلى لقاء عمر فى هذا الصباح.
|