التاريخ : الأربعاء 20 june 2012 01:11:12 مساءً
راح ميدان التحرير ينحسر فى عيون بعض الناس، حتى صار بقعة للأسى والفوضى. لم يعد لديهم قبلة للحرية ورمزا للكرامة. هكذا أراد له من لا يريدون لمصر خيرا. جلسوا ساعات من نهار حول طاولة فخمة عريضة فى مكان بارد، ينزعون عنه رداءه قطعة قطعة، حتى وقف شبه عار بين البنايات التى يسكنها التاريخ: مسجد «عمر مكرم»، المكان الذى تخرج منه جنازات علية القوم، ثم يجلسون ليلا يتلقون العزاء وعيونهم تتابع السيارات الفارهة التى تصطف على الجانبين. ومبنى وزارة الخارجية، الذى كان قصر الأميرة نعمة الله وأهدته للوزارة، ومبنى «جامعة الدول العربية»، الذى طالما احتضن بين جدرانه الكالحة ضجيجا بلا طحن. ومجتمع التحرير الذى أهداه ضباط يوليو إلى مصر، ليصير رمزا لبيروقراطيتها الضاربة فى أعماق الدنيا.
هذه الأعماق التى يشهد عليها «المتحف المصرى» بعلامات من الحضارة العظيمة الغابرة، وتشهد عليها أيضا تلك الجينات المطمورة التى استيقظت فجأة بين الدم والنار والصراخ ودفعت مجموعات من الشباب لعمل سياج حماية لهذا المتحف العريق وقت أن سقط جهاز الشرطة تماما، وحتى يمنعوا عنه ألسنة اللهب التى تصاعدت من مبنى الحزب الوطنى الحاكم، بعد أن أضرم المتظاهرون النيران فيه، وجلسوا يحتسون علب المياه الغازية التى كانت مكدسة داخله، وبعضهم اختطف زجاجات «الويسكى» و«الشامبانيا» و«الفودكا» وآخرون اكتفوا بقطع الشيكولاتة الفاخرة، أو علب «المكسرات»، التى لم يذقها بعض المحتشدين حول المبنى المحترق ولو مرة واحدة فى حياتهم. هذا المشهد الذى أعاد إلى كل شاب الهتاف الذى طالما سمع عنه وقرأه وخرج من رحم انتفاضة الخبز، التى هزت عرش الفرعون أياما: « يشربوا ويسكى وياكلوا فراخ.. وإحنا الفول دوخنا وداخ».
ها هى البنايات العريقة تتجاور على يمين الميدان، مطاعم ومقاه ومكاتب سياحة، وبائع الجرائد الأشهر فى العاصمة كلها. فى هذه المساحة كانت مصر تأتى بين حين وآخر لتعبر عن غضبها. انتفاضات متتالية فى 1935 و1946 و1977، واعتصامات حول «الكعكعة الحجرية» كانت تطالب بالحرب لاستعادة الأرض السليبة.
يأتى الناس ثم يمضون سريعا مخلفين وراءهم بعض حكايات تروى، وأشياء كثيرة يطويها النسيان. قد تراهم بعد شهور قليلة فتعتقد وكأن الأرض لم تهتز من تحت أقدامهم، وكأن الدنيا لم تقف لهم وتحييهم. لماذا يظل زامر الحى عاجزا عن الإطراب؟ لماذا يبخس بعض الناس حق أنفسهم وينسون أو يتناسون أنهم قد صنعوا المعجزات؟ ولماذا يتركون الشوارع تضيق مرة ثانية، بعد أن كانت قد فتحت لهم أذرعها وزحزحت مبانيها التى اصطفت على الجانبين كى تمنح أقدامهم طريقا إلى الخلاص؟
هكذا راحت الأسئلة تنطلق كالسهام فى رأس أحد شباب الثورة وهو جالس على مقهى «وادى النيل»، يجيل بصره فى الميدان، ويقول فى نفسه: كنا ذات يوم هنا. كانت شمس أول يوم فى فصل الشتاء بنت أيام الصيف. حتى المناخ تغير ولم يعد على حاله، وتغيرت معه النفوس. شعاعها المبهر كان مسلطا على أسطح السيارات التى تدور ثم تمرق نحو الشمال غير عابئة بشىء.
هنا على يسارها كانت لوحة رسمها الثوار فى أيامهم الأولى على جدار قصير كتبوا عليها «ميدان الشهداء». جاء من طمسها ومحاها شهورا، لكنهم أعادوها حين خرجوا مرة أخرى، ثم طمست من جديد، وظهرت على حوائط البيوت المطلة على الميدان شعارات تقول: «يسقط يسقط حكم العسكر» بجانبها رسوم فاقعة السواد لامرأة ترسف فى أغلالها، إنها مصر التى فكت قيودها، وما إن رفرفت براحتيها فى الهواء حتى أخذوا معصميها إلى قيد جديد.
ها هو واحد من الذين جعلوا هذا المكان يموج بناس يرفعون قبضاتهم ويدقون الهواء، فيسمعهم العالم بأسره يجلس محملقا فى الفراغ، ينفث دخانا يصنع موجات تافهة تجرى نحو منتصف الميدان، ثم تموت عند «الكعكة الحجرية». ها هو قد استبدل الجلوس بالوقوف، والمنصة العريضة بكرسى خشبى ضيق كسول، ربما بقى مكانه هنا عشرات السنين يستقبل مؤخرات وراء مؤخرات دون أن يضجر.
كان كلما خطفت عقله اللحظات الاستثنائية جاء هنا إلى الميدان ليستعيدها، يدور فى جنباته ثم يمشى نحو منتصفه، حيث الخيام التى وقفت ذات يوم فى وجه العاصفة وحمت أجسادا غاضبة من الصقيع. تهاوت تحت ضربات السهام المسمومة التى أطلقتها آلة الدعاية الجهنمية، التى حولت من كان يقال لهم «ثوار»، و«شباب طاهر»، وينعت قتلاهم بالشهداء إلى «خونة وبلطجية».
كم يثير الضحك والغثيان أن يُسمِّى الخارجون على القانون الذين يؤجرونهم للتصدى للثوار «المواطنين الشرفاء» بينما يسمَّى من أطلقوا النهار فى قلب الليل «الطائشين الحمقى والمرتزقة»؟ انقلب الحق باطلا والباطل حقا، وتبعثرت أوراق كثيرة، وجاء من الخلف من يستولى على كل ما لأصحاب المقدمة القابضين على جراحهم وجمرهم، الذين خرجوا ذات ضحى وأعناقهم على أكفهم.
يستعيد الشاب كل هذا وهو جالس يراقب الوقت الذى يمر على مهل، والناس الذين يقطعون الميدان ذهابا وإيابا دون أن يتوقف أحدهم ليتأمل شيئا، ثم يتذكر ما قاله لرفاقه حين احتدم الجدل بينهم:
- نحن نرمى النخلة العالية القديمة بالأحجار فتتساقط على رؤوسنا، فننشغل بجراحنا عن الثمار التى تناثرت تحت أقدمانا، فيأتى من يجلسون فى الخلف ويجمعونها ويتركوننا جوعى.
وأعاد على مسامعهم هذا الكلام كل مرة وهم يتابعون نتائج الانتخابات، فقالوا له: خاننا الشعب. فصرخ فيهم: الشعب لا يخون، شوهونا فانطلى عليه الأمر، ولا نعفى أنفسنا من المسؤولية، وسيكتشف الخداع قريباً، وسينزل ليزلزل الأقدام من تحت الطغاة، المهم أن ننظم نحن أنفسنا، ونكون على قدر شعارنا: «ثوار أحرار.. هنكمل المشوار».
|