التاريخ : الاثنين 30 july 2012 03:26:33 صباحاً
عشرات من الشاشات التى تطل على عيون المشاهدين فى رمضان وغيره، وتسكب فى آذانهم العقيدة والفريضة والتعاليم والطقوس والقيم الإسلامية، عبر برامج عديدة، بعضها تقدمه قنوات دينية صرف، وبعضها تجود به القنوات العامة والمنوعة، التى لا يمكنها أن تهمل هذا الصنف من البرامج الذى تنجذب إليه جماهير غفيرة.والقاسم المشترك بين الأغلبية الكاسحة من هذه البرامج يدور حول أمرين أساسيين، الأول هو استخدام التليفزيون بوصفه مجرد إذاعة مسموعة، حيث يطل على الناس من الشاشة رجل واحد، يتحدث إليهم بصوت جهير، أو يخطب فيهم بلغة حماسية، أو يتلقى أسئلتهم وملخص مشكلاتهم ثم يجيب عليها حسب رؤيته وتقديره ووفق ما تسعفه به الذاكرة من أسانيد «شرعية»، ويطلق أحكامه من طرف واحد، وليس أمام السائل والمستفسر الذى يرى شفتى الشيخ ويسمع الحروف الخارجية منهما سوى أن يهز رأسه، أو يصمت، أو ينصرف إلى شيخ آخر، فى بحث نهم عن الفتاوى. والثانى هو اعتماد من يقدمون هذه البرامج على إعادة طرح ما هو موجود على صفحات الكتب القديمة، بحيث يتحول الشيخ أو الواعظ إلى مجرد ببغاء يردد ما قرأ وحفظ، فتأتى لغته قديمة مهجورة، وأفكاره وتصوراته بعيدة عن مجريات واقع يتجدد باستمرار.
ورغم رسوخ أقدام بعض القنوات الإسلامية مثل «الناس» و«المجد» و«الرحمة» و«الرسالة»، ومع ظهور برامج دينية ثابتة فى فضائيات كثيرة، فإن الأغلب الأعم يفضل التقليد على التجديد، وإرضاء العوام على إيقاظهم، والنيل من المخالفين فى الرأى وتجريحهم بدلا من الدخول فى حوار بناء معهم. ومن ثم فإن الطاقة الإعلامية الإسلامية الجبارة التى تضخها الشاشات الزرقاء تبدو وكأنها حرث فى ماء، لا تربى نفسا، ولا تبنى عقلا، ولا تشبع ذائقة، لينحصر دورها الأساسى فى جذب المشاهدين واصطيادهم، ليتحولوا إلى زبائن أو مستهلكين للبضائع التى ينتجها شيوخ، ينظر كثير منهم إلى الأمر برمته على أنه تجارة بحتة.
والكثير مما يقال فى هذه البرامج يغذى نزعة الناس إلى البحث عن خلاص فردي، وبدلا من أن يهذب شهواتهم وغرائزهم فإنه يطلقها فى اتجاه النهم إلى استهلاك كل شيء، بدءا من السلع الضرورية والكمالية وانتهاء بـ«الجنس الحلال»، تحت تبريرات تلوى عنق النصوص، وتوظفها فى غير ما نزلت من أجله، ولا تراها فى سياق الظروف القاسية التى نعيشها، وذلك من قبيل: «وأما بنعمة ربك فحدث» أو «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» و«لا تنس نصيبك من الدنيا»... إلخ.
فبعض شيوخ هذه الفضائيات يركب الواحد منهم سيارة فخيمة، ويسكن قصرا أو ما يشبهه، ويأكل من الطعام ما لذ وطاب ويتعطر بأغلى الروائح ويرتدى أفخم الثياب، ثم يخرج على الناس متحدثا عن الترشيد والتقشف والتراحم والتكافل الاجتماعى، وعن عيش النبى (صلى الله عليه وسلم) وصحابته البسيط.
وما يزيد الطين بلة أن بعض هؤلاء يتكسبون من الوعظ والفتوى والرأى الدينى، ناهيك عن قراءة القرآن والدعاء. وليس هناك ما يمنع أن يتقوت الإنسان من عمل ذهنى، فهذا طبيعى ومشروع بل وضرورى حتى يتفرغ بعضنا للتعمق فى دراسة علوم الدين ويعلموها للناس. لكن التوسع فى الكسب إلى درجة تحول الأمر برمته إلى تجارة يضر ضررا بالغا بمضمون رسالة الدين، التى تسعى إلى الامتلاء الروحى وتحقق السمو الأخلاقى وتقيم اعوجاج الدنيا وتحارب شرور النفس وتهذب شهواتها. فبعض هؤلاء الشيوخ يتحولون إلى شركاء فى تلك القنوات، وبعضهم يوقع معها عقودا بمرتبات ضخمة، وبعضهم يأخذ نصيبا أو نسبة من تكلفة كل اتصال هاتفى يقوم به أحد الناس سائلا أو مستفسرا عن قضية دينية أو حكم شرعى. ووصل الأمر إلى أن يحول بعضهم صوته وهو يقرأ القرآن أو يؤذن أو يدعو أو يعظ إلى «رنة» للهواتف الجوالة، والأقسى والأشد مرارة هو أن بعضهم يتكفل بأن يدعو الله لك مقابل اتصالك برقم معين، ويحرمك أنت شخصيا من الدعاء والتضرع إلى الله وهو نصف العبادة، يكفى الإنسان فيها أن يخشع ويحسن الظن بخالقه سبحانه وتعالى، ويلجأ إليه ويقول له ما يريده، بأى طريقة وأى لغة وأى لهجة، أو حتى وهو صامت، لأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.
إن الأغلبية الكاسحة من هذه البرامج تهمل القضايا الأساسية والملحة التى يجب على الدين أن يتصدى لها، ويخوض غمارها، ويجيب على أسئلتها كافة، ويقدم فى هذا ردودا شافية كافية، لا تغادر سقما. ومن بين هذه القضايا حدود الائتلاف والاختلاف بين الدين والعلم، والفروق الجوهرية بين الدين والتدين وعلوم الدين، ومدى ملاءمة أطروحة «إسلامية المعرفة» لمقتضيات العصر، والعلمانية وأشكالها وما إذا كانت تعمل ضد الدين بالضرورة، وسبل التجديد فى الفكر والفقه الدينى، وطرق فتح باب الاجتهاد الذى أغلقناه بأيدينا، والمواطنة فى الفكر السياسى الإسلامى، والمقاومة فى نظر الإسلام بشتى ألوانها المسلحة والمدنية والتحايلية، والعلاقات الدولية فى الإسلام، وحدود التعامل مع الآخر، والحرب العادلة كما يراها ديننا فى نصه وتأويله، والتنمية من منظور إسلامى، وظاهرة الإسلاموفوبيا وكيفية تبديدها، والأصالة والمعاصرة والأساليب المثلى لفض الاشتباك بينهما، والاستشراق الذى عنى بدراسة الإسلام والمسلمين، والحوار بين المذاهب الإسلامية، وفتن المسلمين المعاصرة وطرق تجنبها، والعمارة الإسلامية، والقيم العامة التى ينطوى عليها الإسلام مثل العدالة والمساواة والحرية والتسامح والإخاء والعفو والإحسان.
إن هذه القضايا جديرة بأن يلتفت إليها شيوخ الفضائيات بدلا من تكرار ما قيل آلاف المرات من قبل، وإلا سنظل نحرث فى ماء، وسنجنى ربما من غير دراية ولا قصد على الإسلام.
|