التاريخ : الأحد 09 september 2012 05:29:35 مساءً
قرأت أعمال الشيخ حسن البنا أيام دراستى الجامعية فى النصف الثانى من ثمانينيات القرن المنصرم. وقرأت كذلك أعمال سيد قطب فى مراحله الثلاث، ناقدا وشاعرا، ثم مفكرا إسلاميا منحازا إلى العدل الاجتماعى وجماليات النص القرآنى، وأخيرا حانقا ناقما على كل شىء، يرى الدنيا من ثقب إبرة، أو من كوة الزنزانة التى استقر فيها قبل أن يذهبوا به إلى المشنقة. تذكر الأدباء لقطب مرحلته الأولى بامتنان، وقالوا عنه إنه «أول من قدم نجيب محفوظ»، وتذكر المعتدلون مرحلته الوسطى وقالوا إن كتابه «العدالة الاجتماعية فى الإسلام» سفر لا يبارى، ونسى المتزمتون هاتين المرحلتين واحتفوا بمرحلته الأخيرة وأشاعوا عنه أنه قال فى آخر أيامه: لا أريد أن ينسب إلى مما كتبت سوى «معالم فى الطريق» و«فى ظلال القرآن».
فى أيام مطالعتى لكتب البنا، الذى اغتيل فى فبراير من عام 1949، كان على رأس الجماعة رجل رائع رائق معتدل هو عمر التلمسانى، وكنا نسمع عنه كل خير ونقدره، حتى لو لم نتبع خطاه. ورحنا نسمع ونشاهد ما جرى للجماعة بعد رحيله من الانتقال مجددا من «الدعاة» إلى «القضاة»، ونسيان التربية التى تروم تسامى الأخلاق وامتلاء الأرواح لحساب السياسة النازعة إلى المكر والدهاء والكذب والخديعة. ورغم أننى وجدت منذ البداية فى البنا «منظما» عبقريا وليس «منظرا» كبيرا، إلا أن حديثه عن الإصلاح الاجتماعى والأخلاقى المتدرج كان يلفت انتباهى، بقدر التفاتى إلى إمكانياته المبهرة فى بناء شبكة اجتماعية متماسكة تقوم على أكتاف تنظيم صارم. وعرفت لماذا رفض الإخوان فى البداية أفكار سيد قطب، وكانوا يقولون: ليس منا. إذ إنهم ببساطة ضاهوها بما تركه لهم مؤسس الجماعة، فوجدوا الشقة واسعة بين من يسعى إلى التغيير الهادئ، الذى يقوم على «الحكمة والموعظة الحسنة» فى الغالب الأعم، وبين من يفكر فى حرق المراحل والقفز على السلطة دون أن يكون المجتمع قد تهيأ بعد للفكرة التى يحملها فى رأسه وتؤرقه ويكرس عمره ليراها متجسدة فى الواقع المعيش.
ومع الأيام صار التنظيم هو «البقرة المقدسة» وتقدم «التنظيميون» المحتفون بتجربة أسلافهم فى «التنظيم الخاص» حتى أمسكوا بتلابيب الجماعة وتحكموا فى أموالها وهياكلها ومنهجها، وبدوا أتباعا لسيد قطب أكثر من كونهم مريدين لحسن البنا، وراحوا يتخلصون تدريجيا ممن يخالفهم الرأى والنهج داخل الجماعة.
ولذا لم يجدوا غضاضة فى القفز إلى الكراسى الكبرى، دون أن يعتنوا بالإجابة عن ثلاثة أسئلة: هل المجتمع تهيأ تماما لقبول ما لديهم ولذا سيدافع عنه ويتمسك به إلى الأبد كما كان يحلم البنا؟ وهل يمكن أن يؤثر أداؤهم سلبا على صورة الجماعة التى أكسبتها تعاطف كثيرين أيام حكم مبارك؟ وهل يمكن أن يتراجع مستوى التدين فى مصر عموما حين يرى الناس أن من ظنوا أنهم «رجال الله» أو «بتوع ربنا» مثلما يقال على ألسنة العوام هم فى السياسة شأنهم شأن من كان الإخوان ينعتونهم بالابتعاد عن شرع الله؟ وأن «الإسلام هو الحل» ليس سوى لافتة؟
حصاد الشهرين اللذين ترأس فيهما مرسى البلاد - هما بالطبع ليسا كافيين للحكم على مشروعه، لكنهما دالان فى فهم أسلوبه وطريقته - هو أن الإخوان لا يختلفون فى أدائهم عمن لعنوهم، فها نحن نرى اقتراضا من صندوق النقد الدولى، وتقديم أهل الثقة على أهل الخبرة، والكيد للخصوم عبر إطلاق الشائعات وتسليط الكتائب الإلكترونية، وعدم الوفاء بالوعود والعهود، وممارسة الخداع على طريقة «ميكافيللى» أو «الآداب السلطانية» والسعى لإرضاء الولايات المتحدة، وإبقاء مصر تابعة للغرب، واحتضان بعض رموز نظام مبارك وتوزيرهم، والانحياز إلى القلة المحتكرة على حساب الكثرة التى تعانى شظف العيش. ووسط كل هذا ينكشف الإخوان أخلاقيا أمام الناس، بعد أن يتجلى لهم الفارق الرهيب بين ما يقال وما يتم فعله.
إن الذين صوتوا للإخوان فى الانتخابات التشريعية لم يصوتوا لمشروعهم وأفكارهم إنما اعتقدوا أنهم «مجموعة سياسية» يمكن الاعتماد عليها وبوسعها أن تساعد مصر فى الخروج من مرحلة الإرباك التى أعقبت الثورة، وأغلب من صوتوا لمرسى فى انتخابات الرئاسة فعلوا هذا ليس حباً فيه ولا فى الأفكار التى يحملها برأسه، إنما نكاية فى العسكر، وخوفا من عودة نظام مبارك، وإلا لما تبنى مسؤولو الدعاية فى الإخوان أنفسهم شعار «اعصر على نفسك ليمونة واختار مرسى». وهذا معناه أن النبتة التى غرسها «البنا» وسعى إلى أن تكون شجرة فارعة ورافة الظلال لم تستو على سوقها بعد، إنما استطالت بفعل عوامل طارئة، لتصير هشة فى وجه الريح، أو تبقى مثل الثمار التى تنتفخ ورما حين تمتص أنواعا معينة من السماد، فتصبح غير مستساغة الطعم.
وبالطبع فالزمرة التى تتحكم فى جماعة الإخوان حاليا حرة فى أن تغتال حسن البنا مرة ثانية بسن قلم سيد قطب، وهم مكلفون ومسؤولون وفق هذا الاختيار، أما ما نخشى منه حقا فهو أن يدفع المجتمع المصرى كله ثمن هذه التجربة، وهو ما لا نتمناه أبدا، وسنتصدى له من دون شك.
|