التاريخ : الأحد 09 december 2012 04:31:52 مساءً
يجب مقاومة الحاكم الجائر، لرده عن ظلمه وطغيانه، ودفع الناس إلى إقامة العدل، الذى تتقدم به أمم حتى ولو كانت فاسقة، بينما تتردى من دونه أمم حتى لو كانت مؤمنة. وقد جعل الدين الإسلامى، من خلال حديث شريف، من هذا النوع من المقاومة أعظم درجة من درجات الجهاد. فها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر».
وقد أخذت مقاومة الاستبداد أشكالا متعددة عبر التاريخ الإنسانى، لتحقق القاعدة السامية التى تخلق نوعا من التوازن والتحسب فى الحياة الإنسانية بأسرها، حين يدفع الناس بعضهم بعضا. وأعلى شكل تمثل فى الثورات العارمة التى عرفها التاريخ، وبعضها كان أحمر إلى أقصى حد مثل «الثورة الفرنسية» وبعضها كان أبيض إلى أفضل مستوى مثل «ثورة يوليو المصرية» التى قامت عام 1952، وبين هذين اللونين تدرجت الثورات التى غيرت مصير ومسيرة الإنسانية جمعاء. وهناك أشكال متفاوتة من مقاومة الاستبداد منها العصيان المدنى والتمرد وتبنى خطاب مضاد لذلك الذى تتبناه السلطة، ومنها التظاهر السلمى، والاحتجاج العنيف، الذى يصل إلى مرحلة رفع السلاح فى وجه السلطان الجائر.
وفى كثير من الأحيان نجحت المقاومة السلمية فى تحقيق الغرض منها، حتى لو كانت منزوعة العنف تماما، مثل تلك التى قادها الزعيم الهندى الخالد المهاتما غاندى ضد الاستعمار الإنجليزى لبلاده، حيث اكتفى الهنود بمقاطعة البضائع الإنجليزية، والرضاء بالعيش على حد الكفاف، ورفض التعاون مع المستعمر تحت أى ظرف، وتقديم الأرواح رخيصة وفى صمت وامتنان كامل فى سبيل الكيد للمحتل الغاصب، وتجريسه عالميا. وقد بدأ «غاندى» بنفسه فلبس ثيابا خشنة كان يصنعها بمغزله، واعتمد فى كل طعامه على عنزته الشهيرة، التى كان يصطحبها معه فى كل مكان. واتبع الهنود زعيمهم، حتى وجد الإنجليز أنفسهم مجردين من ركائز عديدة للسيطرة والحكم، فانجلوا عن البلاد.
وفى أحيان أخرى لم تنجح المقاومة، حتى فى ظل ممارسة درجة قاسية من العنف، فى إزاحة الحكم المستبد، بل انتهت فى بعض الحالات بهزيمة المقاومين وانسحاقهم، وإجبارهم على التراجع عن أفكارهم، وإلقاء السلاح من دون قيد ولا شرط. لكن حدوث هذا بشكل متكرر لم يمنع أناساً فى كل زمان ومكان من رفع لواء مقاومة الظلم، حتى وهم أقل عددا وعدة. ومثل هؤلاء حافظوا على حركة التقدم فى التاريخ الإنسانى، وأججوا دوما أشواق الناس إلى العدل والحرية، وتمسكهم بالمثل العليا، وجعلوا راية الاحتجاج تنتقل من جيل إلى جيل، دون توقف. وأدى هذا فى كل الأحوال إلى شق مسار مغاير فى التاريخ، يتأسس على كلمة «لا» أو رفض الأوضاع السائدة، وعدم الانصياع لتجبر المستبدين، أو الرضوخ لمسلك الفاسدين، الذى يشد عربة الحياة إلى الوراء، ويغتال حلم الإنسان فى مستقبل أفضل. وهذا المسار لا يستطيع حاكم فى أى وقت أن ينكره، حتى لو كان مساراً ضيقاً حرجاً، ومن ثم بدا بالنسبة للجالسين على العروش وكراسى الحكم كابحا مهما، وعنصرا ذا بال، يجب أن يحسب حسابه فى مختلف الأوزان والنسب التى تشكل أى قرار، حتى ولو بنصيب ضئيل، ووزن خفيف.
كما تجب مقاومة الأفكار المتخلفة والتقاليد البالية والأعراف المتحجرة المغلوطة. وجبهة المقاومة تلك هى الأعرض فى تاريخ الإنسانية، والأكثر تأثيراً مع الزمن. وعطاء المفكرين والعلماء والمبدعين فهو إن كان لا يحدث تغييراً سريعاً، ولا تصاحبه جلبة وصخب، فإنه يسرى فى أوصال الحياة سرياناً متواصلاً، فيغير ما يسود بها تغييراً متتابعاً. وهذا المعنى ينطوى عليه مفهوم التقدم، الذى يعنى الإيمان بإمكانية التحرك إلى الأمام سواء فى الميدان الأخلاقى أو الاجتماعى، على أيدى أنصار التغيير والتجديد والتطوير، الذين يعملون على تمكين الجماهير من صنع القرار، وتخطى العقبات وإزاحة المؤسسات المعادية لإقامة مجتمع تسوده نسبة أعلى من التحرر والعدالة والديمقراطية.
وتذكر المعاجم والقواميس الحديثة أن المفهوم المعاصر للتقدم قد تطور مع نشوء الثورة الصناعية فى القرنين السابع عشر والثامن عشر خلال معارك تصفية النظام الإقطاعى ونشوء الدولة القومية والنظم الرأسمالية. وكانت نظرية النشوء والارتقاء لتشارلز داروين، والنظريات الاشتراكية، بما فى ذلك الاشتراكية العلمية لكارل ماركس. لكن إمعان النظر فى التاريخ الإنسانى يكشف عما هو أبعد من هذا بكثير. فالإنسان لم يتوقف منذ بدء الخليقة عن الترقى فى المعاش، ومحاولة السيطرة على الاحتياجات الطبيعية والمادية، التى تحول دون تطور القوى الإنتاجية فى المجتمع، ومحاولة القضاء على المرض والجهل والاستبعاد والاستغلال.
ويحفل التاريخ البشرى بمقاومين من هذا النوع، دفعوا حياتهم ثمناً لأفكارهم وتصوراتهم، أو تعرضوا لتعذيب شديد كى يتراجعوا عما يقولونه ويفعلونه، لكنهم أبوا، وتمسكوا بما تنطوى عليه جوانحهم وما يدور فى عقولهم. وإذا كانت البعض منهم لم يجد صدى أو نتائج سريعة لأفكاره على قيد حياته، فإن ما تركته لم يذهب جفاء، بل مكث فى الأرض، وانتفع به الناس، حين ساعدهم على التخلص من عادات سيئة، وأفكار خاطئة.
|