التاريخ : الاثنين 20 june 2011 11:20:40 مساءً
عفواً، إذا كنت من اصحاب الحناجر التي تجأر بالصراخ دون ان يعنيها ما يدور علي ارض الواقع من صراع فعلى، لإنها فى الأصل منقطعة الصلة عنه فلا تجهد نفسك بقراءة هذا المقال.
كنت ولازلت وسوف اظل رافضاً لكل اشكال المراوغة فى الخطاب التى تتبعها جماعة "الاخوان المسلمين"- ولا اعتبر ذلك تعريضاً بشخوص اعضاء أوقادة الجماعة لإنى اعنى بالخطاب خطاب السياسة وعدا ذلك فإنى اقدرهم كفصيل سياسى وطنى عانى كثيراً من الاضطهاد فى العصر السابق- ويعود الرفض لأنك دائماً امام مستويين من الدلالة والمعنى احدهم قريب للعامة، وهو خطاب "مخاتل" يستهدف الاستمالة فى هذا المستوى، ومستوى آخر للخاصة هو خطاب "التمكين" الذى يستهدف السلطة.. وانى وإن كنت ارفض ذلك فلم اكن لألومهم عليه فى ظل النظام المستبد السابق غير ان الوضع وقد تغير بعد الثورة فإن استمرار الخطاب الاخوانى على المنهج الذى سار عليه منذ زمن يصبح محل استفهام عريض.
مرجع هذا الاستفهام العريض هو: هل يحتاج "الاخوان" استمرار هذا الخطاب فى هذه الفترة؟ الاجابة: نعم، وفق تقديرهم هم، فمازالوا حتى الآن دون مرحلة "التمكين" وبالتالى هذا لو كنت تتحدث عن اللعبة السياسية كرهان براجماتى صريح تطبيقاً لمقولة "ان السياسة هى فن الممكن" ، وبالتالى فإن الخطاب الاخوانى يهدف إلى التسلل إلى القاعدة العريضة من الجماهير عن طريق الدين، فهو المعبر عن الفصيل السياسى الذى يرفع "الاسلام هو الحل" شعاراً، وبالتالى لا يصلح فى المقابل ان تكون تلك هى ذاتها "الفزاعة" التى يستخدمها الخصوم فى المواجهة مع هذا الفصيل، فالتهديد لا يأتى من الدين أبداً، ولكنه يأتى من خلطه بالسياسة.. ومع ذلك فقد عرفوا الاخوان عبر نحو ثمانين عام من العمل السياسى سر الخلطة!
والخلطة التى عرفها "الاخوان" وعاندها البعض خاصة بعد ثورة 25 يناير هى ان الرهان السياسى لا يتمحور حول "التنظير" او "الديالكتيك"، وان الحشد لا يتم بين صفوف المثقفين وابناء الطبقة المتوسطة وانما بين صفوف الجماهير العريضة فى الريف والمدن البعيدة والمناطق العشوائية التى كان النظام السابق يقودها ويوجهها بالقهر والإستمالة، ونجح فى ذلك إلى حد بعيد حتى ان الكثيرين ممن يتحدثون الآن فى التنظير السياسى لمستقبل الدولة لم يكونوا على ادني ثقة من حتمية انحيازهم للثورة إذا لم يكن هذا القطاع العريض هو مفجرها فى الأصل، وباغتهم التفاعل النشط لهذه الجماهير التى - فى اقصى لحظات انفلاتها- لم تصل إلى ما كان يردده بعض علماء الاجتماع السياسى من احتمال تحولهم ثورة جياع.
لم يستوعب اصحاب الظاهرة الصوتية السياسية ان صنع مستقبل الوطن لا يكون عبر "شاشات" الفضائيات وإنما فى الشارع وعبر التفاعل الخلاق مع الجماهير على اجندة مصالح مشتركة وعلى هدى خطاب بسيط يستخدم مفردات نفس الثقافة ويكابد ذات المعاناة.
انخرط الجميع وربما شاركهم الاخوان بقدر من الحذر فى "سفسطة" قانونية وسياسية حول اولويات الدولة الوطنية فى مصر بعد سقوط مبارك ونظامه.. ودفعوا بالجميع إلى "فخ" التعديلات الدستورية او شاركوا على الاقل فى عملية "استهواء" الجماهير إلى هذا الاتجاه واغرقونا فى مناقشة التفاصيل بينما كان من الممكن التجاوز عن ذلك كله والبدء بالدعوة إلى جمعية تأسيسة يتم انتخابها لوضع المبادىء "فوق الدستورية" ثم يتم الاستفتاء عليها وصياغة الدستور والاستفتاء عليه لتمضى بعد ذلك الحياة طبيعية ، ولكن اصحاب الحناجر العالية شاركوا فى استنزاف الوقت وقطع الجذور مع القوى الحقيقية فى الشارع وساقوا او انساقوا. إلى فخ الاستفتاء ليصطنعوا "شرعية" وطيدة الاركان تعتمد على مرجعية الصندوق الانتخابى وهى اعلى المرجعيات الديمقراطية واقدسها بعد الشرعية الثورية التى تم استلابها.
ورغم هذا الفخ الذى تم الوصول إليه حاول "الحنجوريون الجدد" ذلك بأن هناك حنجوريون قدامى ينتمون إلى عقود الستينات والسبعينات من القرن الماضى- ان يفلتوا من الفخ بعد ان احكم غيرهم شراكه عليهم وعلى الجماهير التى انقطعوا عنها فكانت الضربة القاسمة والانقلاب على شرعية الثورة عبر الطريق الديمقراطى الذى فرض على الجميع احترام اختيار الصندوق وهو ما كان " ثم اخيراً افاق البعض ليكتشف ما قدمت يداه فإذا به يعود إلى جادة الصواب ويطالب بالدستور اولاً.. ولكنه هذه المرة مجدداً يتورط فى تناقض اشد مرارة فهو لا يكتفى بفقدان التواصل مع الجماهير، ولكنه ينقلب على ارادتهم .. وعلى الديمقراطية نفسها التى ارتضاها.. وهو يفعل ذلك للأسف مغامراً لم يحشد بعد التأييد الشعبى اللازم، رغم الدعوة التى ظهرت مؤخراً لجمع 15 مليون توقيع لتأييد ذلك الخيار..بل والأكثر مرارة ان دعاة هذا الخيار لم يعدوا انفسهم لاستحقاقته او ما سيرتب عليه إذا ما تم اللجوء إليه!
انا ارفض الدولة الدينية ولا اري ان اصحاب "ديالكيتك" او جدل السماء الذى ياتى بالحقائق المسلمة بالأمر المباشر من علياء السماء بينما هو يفترض أن يتدبر امور الدنيا فى الآرض!! ارفض هذا التضليل بإسم الدين، وان هناك فريق يملك كل الحلول لكل المشاكل دون ان يرهق نفسه بتقديم حلاً واحداً لمشكلة حياتية كتمويل الموازنة العامة للدولة او زيادة الصادرات وخفض الواردات او حتى القضاء على "العنوسة" خلاف تعدد الزوجات!
ولكنى بالقدر نفسه ارفض "ديماجوجية" التنظير فى المطلق وحلول الفضاء الخارجي القادمة من سماء اخرى لا تستوعب خصوصية الوضع الداخلى وشروطة ومواضعاته، وان "القبلية" و "العائلية" اكثر تأثيراً من الدعاية السياسية، وان المواجهة مع الدولة الدينية تبدأ من "دولة الحقوق" التى تؤخذ حقوق غالبية سكانها من الفقراء فى الاعتبار
هنالك يمكن للخطاب السياسى الحالى ان ينزل من عليائة ويسكن الارض فـ"ديالكتيك السماء والأرض" هو تنافض براجماتى فى تأصيل وترتيب الحقوق ولامجال فيه لـ"قدسية".. لهذا ينبغى ان يتقدم العمل السياسى على "التنظير" فى الوقت المناسب قبل فوات الأوان. |