التاريخ : الثلاثاء 05 july 2011 08:31:18 مساءً
تلك قصة حقيقية..
حين مرَّ بجواره وجده مُنهمكًا فى كتابة شىء ما على ورقة صغيرة، وأمامه بعض "أكياس المناديل الورقية" التى يبيعها للعابرين دون أن يتوارى خلف ظل يحميه من شمس الصيف..
وقبل أن يتجاوزه لاحظ أن على يديه علامات "صِنعة ما".. فالأظافر اختفى لونها من "بُقع" لطالما ترسّخت عليها، والأصابع أحدها تنقصه "عُقلة".. أما الوجه فكان شاحبًا حزينًا..
تجاوزه بعدة أمتار.. ثم فكَّر.. من هذا الرجل "الأربعينى" وماذا يكتب؟.. وإذا كان صاحب صِنعة.. فلماذا يبيع المناديل ويَرضى لنفسه هذا الوضع المهين الأقرب إلى التسوّل منه إلى العمل؟!.. وبينما يُفكر تجاوزه بمسافة أخرى.. وعاد ليسأل نفسه: لماذا لا أرجع إليه؟.. فربما فهمت شيئًا.. بدلاً من أن أمرّ عليه.. وكأنه والسراب سواء.
فجأة.. ارتفع بداخله صوتٌ وكأنه هتاف المظاهرات التى اعتاد عليها "ارجع.. ارجع".. فرجع إلى هذا الجالس على الرصيف.. وكُومة مناديله.. مدّعيًا أنه يريد "كيس مناديل"، فاتحًا حوارًا مع الرجل وعما كان يكتبه، فجاؤه الرد أنه كان يكتب "أورَادًا" يشكو بها لله -خالقه- من ضيق الحال.. وكثرة الترحال.
كان فى ذلك مدخل لحوار.. انتهى بأن عرف "المار" كل شىء عن "الجالس".. فهو نجَّار من إحدى قرى "المنيا".. منذ أن قامت الثورة فى مصر وهو لا يجد عملاً لأن زبائن الورشة التى كان يعمل بها صاروا يتعاملون مع إصلاحات النجارة بوصفها من الرفاهيات.. حتى تخلّص منه صاحب الورشة حتى لا يكون عبئًا عليه.. فلم ير مفرًا من النزوح للعاصمة علَّها تأويه.. ولو ببيع بعض "أكياس المناديل" تمنحه جنيهات قليلة يشترى بها طعامًا يُقيم صلبه.. وتمنحه مقرًا يضع فيها جانبه آخر اليوم .. ولا يحلم بأكثر من ذلك.
سأله "المَار": أنت صاحب حرفة لماذا لم تعمل؟.. فرد عليه الجالس: حاولت ولم أجد مكانًا يستوعبنى.. وكلما مررت على ورشة نجارة لأسأل عن عمل، كان الرد الجاهز من صاحب الورشة دائمًا: "مش لما أنا نَفسى ألاقى شغل"!!.
تعقدّت الأمور فى ذهن الشاب.. الآن وقد عرف ما كان يفتك بفضوله، ماذا هو فاعل؟!!.. الآن بات يعلم أن هذا الفقير المحتاج تضرَّر من ضيق الحال بعد أن قلَّصت العشوائية والارتباك الذى خلّفته ثورة الشعب من فرص الحياة لدى هذا النجَّار الفقير، وكان هو واحد من أكثر المؤمنين بالثورة والداعين لها والمُجازفين من أجلها.
ماذا سيفعل الثائر.. بضحية ثورة؟!
هل يكتفى بأن يضع يده فى جيبه ويخرج جنيهات يطويها فى كف الرجل الجالس خلف "مناديله"؟!
ماذا يفعل الثائر بواحدٍ من ضحايا الثورة؟.. وكيف يُقنعه بأن ما حدث فى مصر سيعود عليه يومًا بالإيجاب؟!!
كيف سيُصدقه "الأسطى" بائع المناديل.. وهو الذى أجبره الجوع على النزوح لاجئًا فى وطنه بحثًا عن أمل لم يجده.. وأفق أوسع لم يصل إليه؟!
كان فى جيب الثائر بضع عشرات من الجنيهات، حتى لو أعطاها لـ"النجَّار" العاطل، فلن تكفيه أكثر من ثلاثة أيام.. فهداه تفكيره إلى أمرٍ ما!!.
وضع كفه فى كف "بائع المناديل" واستأذنه أن يأتى معه.. فاستجاب الرجل الذى لا يملك إلا تفويض أمره لله.. سارا سويًا إلى أحد المحال التى تبيع العِدد، اشترى له "شاكوشًا ومنشارًا وكماشة وفأرة مُتواضعة"، وأرشده إلى أن المدن الجديدة لا تجد حرفيين مثله، للإصلاحات الصغيرة فى البيوت، واقتسم معه ما تبقى من جنيهات، وتمنَّى له التوفيق ورحل، فعاجله "النجَّار" بدعوات مبروكة.. ونظرات أكبر من أن تُترجم.
رحل "الثائر" وهو يسأل نفسه: هل هذا الرجل سيتحمل مسئولية نفسه؟.. أم سيعود إلى التسوّل المُستتر؟!.. هل سيكون عند حُسن الظن به؟!.. أم سيمر فى نفس الطريق بعد أيام فيجده كما هو؟!
مرَّ شهر وأكثر.. عاد إلى المكان.. فلم يجده.. إلى أن التقاه صُدفة فى طريق آخر.. تبدَّلت أحواله قليلاً.. ولم يزد عليه سوى "شنطة" صغيرة بها بعض الأدوات التى اشتراها له.. لكنه كان سعيدًا.. لأنه وضع قدميه على طريق لم يكن يُفكر فيه.. وهداه إليه "الثائر" الذى مرَّ أمامه قبل أيام.. فكانت النتيجة أن رزقه الله الذى جعل لكل شىءٍ سببًا.
لم ينتبه "الثائر" لكلام "النجَّار" وهو يشكره ويدعو له بالبركة والرحمة من الله.. لأنه كان يُفكر فى سيناريو آخر.. وسؤال جديد سأله الثائر لنفسه: ماذا لو كُنت مررت ولم ألحظ يديه العاملتين؟.. ولم أرجع؟.. ولم أفكر لصالحه؟.. ولم أساعده؟.. لكن سؤالاً أهم سقط على رأسه وكأنه الصاعقة: كم إنسان مررت عليه ولم أشعر به، ولم أسع إلى مُساعدته ولو بالنصيحة أو حتى المواساة؟!
تُرى ما الذى يعمينا؟!
|