التاريخ : السبت 09 july 2011 05:20:37 مساءً
أعرف أن ما سأقوم به في السطور التالية اشبه بإنفاذ “مبضع” في جرح لم يندمل بعد, ولكن هذا ما يتعين القيام به لإنقاذ الجريح.. هكذا هي محاولات نقد الذات في لحظات المد الثوري.. وليت الأمر يقتصر علي صعوبة القيام بالمهمة وتحدياتها وإنما قد يتطور الأمر إلي الرمي بأبشع الاتهامات لكل من يحاول ذلك مخلصاً إبتغاء مصلحة الوطن ومن اجل مستقبل ايامه القادمة.
رغم ذلك سأواصل ما انتويت علي فعله.. واعتقد ان بداية هذا النقد تصدر من تساؤل مشروع وضروري, هو : ماذا بعد جمعة 8 يوليو؟.. ما الذي نعتزم القيام به؟ وإذا كان القصاص العادل لدماء الشهداء هو الهدف الذي اعاد حشد الجماعة الوطنية مرة اخري بعد 11 فبراير وسقوط النظام الجائر.. كله أو بعضه او حتي مجرد رمزه_ فماذا نحن فاعلن بعد ذلك؟ وهل ستظل “نحن” موحدة ام تعود إلي الانقسام ونعود معها إلي العديد من ضمائر الجمع التي ينكر بعضها بعضاً؟!
إذا اردنا الصدق مع انفسنا والتوقف عن حالة التخبط التي تعصف بـ “الوعي الجمعي” في هذه اللحظة بالغة الدقة لابد ان يكون لدينا مشروع لما بعد 8 يوليو, وان تبدأ النخب السياسية سريعاً في استغلال زخم هذه العودة الثانية لروح ميدان التحرير لصياغة توافق سياسي عابر لخلاف الدستور اولاً او الانتخابات اولاً, لإنه جزء من صناعة الازمة التي سأعرض لمظاهرها في السطور التالية والتي ساعدت النخب السياسية دون استثناء وليس فقط فريق كجماعة الاخوان المسلمين في استحكامها وسقوط الوعي الجمعي في براثنها وهو ما اسميه بصناعة “الديماجوجية” التي تقود إلي حالة من الاصطراع “الاستنزافي” الذي يجهض مشروع الثورة في “الحرية” و”الكرامة” و”العدالة الاجتماعية”, ويجهد القوي الوطنية دون طائل لتصبح صراعاتها حول مساحة نفوذ وهمية بينما هي في حقيقة الامر تسهل اجواء الانقلاب علي ثورة 25 يناير من جانب اعدائها, خاصة ان احباط العديد من فئات الشعب من تحقيق الثورة لاهدافها يعيد تكتيلها ضد روح الثورة التي حركت الجموع ثم توقفت عن الابداع وانشغلت عن اهدافها فبدأ البعض يشعر بالتململ والضجر!
لابد ان تكون المعركة الحقيقية بعد 8 يوليو هي محاربة ماكينة صناعة “الديماجوجية” في كل موقع والتي تسعي إلي احلال الفوضي وتؤخر كافة محاولات الوفاق الوطني, وتغذي لدي البعض نزعات الاستعلاء وتشجع بعض التيارات علي الإمعان في إثارة مخاوف فئات من المواطنين, وتعمل علي تفتيت الجماعة الوطنية إلي فرق وشيع تعلن الحرب علي بعضها البعض.. هذه “الماكينة” ليست كلاً واحداً متسق الميول والاطماع وإنما بعضها يفتقر إلي الخبرة السياسية اللازمة, ويمضي في طريق صناعة “الديماجوجية” لإنه يعتقد ان ذلك ربما يمنحه ما يحتاج من شرعية إذا تراجعت شرعية الجميع, والبعض الآخر يكتفي بين فترة واخري بطرح “بالونات” اختبار لقياس ميول الرأي العام واستعداده للفوضي, وبعضاً ثالثاً يعتقد ان الحالة الراهنة تمنحه سبقاً بإعتباره الاكثر حفاظاً علي انسجامه الداخلي لهذا يتعامل بعنف في كل حالة تهديد لذلك الانسجام الداخلي.
ساهمت النخب السياسية ولا تزال في محاولات التصفية “الديماجوجية” لثورة 25 يناير بعد ابتلاعها طعم التعديلات الدستورية وانشغلت بالتفاصيل واعتقدت في نهاية المطاف ان الشرعية الثورية كيان مادي يمكنه حماية نفسه أياً كانت الظروف, لكن هذه المراهقة السياسية فضحت نفسها, عندما سمحت من الأصل بإجراء الاستفتاء علي تلك التعديلات التي كانت بمثابة شق لصفوف الجماعة الوطنية لينتهي المطاف بسلب الشرعية الثورية, والتأسيس لشرعية جديدة اكثر رسوخاً لإنها تأتي للمرة الأولي عبر أعلي درجات الاقتراع ديمقراطية وهو الاقتراع العام المباشر عبر صندوق الانتخابات لأول مرة في تاريخ مصر المعاصر دون تزوير لإرادة الناخبين.. وعندما وجدت بعض القوي السياسة انه قد جري استدراجها إلي هذا الفخ حاولت الانتفاض وعادت إلي المطالبة بـ”الدستور اولاً” ولكن هذه المرة وجدت نفسها في مواجهة تحدي جديد علي احترام قيم الاختيار الديمقراطي الحر “لنجد قوي ديمقراطية عديدة علي استعداد للوقوف في وجه الديمقراطية” وهو صراع مصطنع في نهاية المطاف يهدف إلي تعميق “الديماجوجية”!
لماذا يعمق ذلك “الديماجوجية”؟! لإنه يهدف إلي خلق مرجعية ثالثة إلي جانب المرجعية التي يمثلها المجلس العسكري, ومرجعية صندوق الانتخابات, وليس في ذلك ما يضير لوان حالة من التوافق يمكن التوصل إليها بين هذه الاطراف اما وان يذهب الجميع في الصراع إلي مداه وينشغل الجميع عن مصالح الوطن العليا بمكاسب النفوذ, وتتقافز يوماً بعد آخر برامج “التوك شو” لتحصد ثمار هذا المناخ وتوزع شركات الدعاية والاعلان علي الفضائيات المتزايدة يوماً بعد آخر عوضاً عن المسلسلات والافلام الحصرية تلك البرامج بعد ان اصبحت اكثر قدرة علي جذب المشاهدين في ظل المناخ المسيطر والصراع الدائر وبالتالي اكثر قدرة علي حصد الاعلانات والأموال!
إذا امعنا النظر نحن نخدع انفسنا في ظل غياب أجندة وخطط واضحة المعالم عن المستقبل وقيادة واعية من نخب مسئولة وطنياً, بإستمرارنا نطارد اوهام المتبوعات بـ”أولاً” وحدث ولا حرج!
المطلوب الآن استثمار لحظة ما بعد 8 يوليو في صياغة وفاق وطني يقبل بجبهة وطنية اياً كانت توزيعات القوي السياسية داخلها للاسراع بالعودة إلي الحالة المدنية وتحقيق مطالب الثورة الثلاث وتأجيل اقتسام مغانم النفوذ إلي محطة قادمة.. سواءاً مر ذلك عبر خيار الدستور اولاً.. أو الانتخابات اولاً.. فقط ينبغي الحذر كل الحذر من حالة “الإنفتاخ” _ اقتباساً عن تعبير للممثل أحمد حلمي_ ان تصيب العقل الجمعي المصري اكثر من ذلك الذي اصابته به علي مدار 30 عاماً فنصبح علي ما فعلنا نادمين!
|