صورة ارشيفية
قراءة وتحليل: محمد بركة
ارتفعت مُعدلات التضخم على نحو يدعو للقلق منذ شهر مايو الماضى وعلى مدار 3 أشهر حتى بلغ معدل النمو الشهرى فى الرقم القياسى لأسعار المستهلكين المُعلن من قبل الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء فى نهاية شهر يوليو الماضى 3.22% مقابل 0.82% فى نهاية يونيو السابق، فيما ارتفع معدل التضخم السنوى إلى 32.95% فى نهاية يوليو مقابل 29.76% خلال الفترة المُناظرة من العام الماضي، وذلك بالرغم من الإجراءات التى اتخذها البنك المركزى خلال هذه الفترة لاحتواء التضخم النهم فى الأسعار سواء من حيث امتصاص فائض السيولة المحلية بالأسواق، أو من حيث تقييد الاستهلاك بالاعتماد على سعر الفائدة الذى تمت زيادته مرتين خلال 3 أشهر بالأسواق.. لتعلو نبرة الهاجس العام لجمهور المستهلكين التساؤل: هل فى الإمكان لجم هذا التضخم المُتصاعد..؟! ومتى يمكن أن يصبح هذا الهدف فى المتناول..؟!
الإجابة عن السؤال السابق تحتاج إلى معرفة حقيقة لا ينبغى إنكارها حتى يمكن الوصول إلى طرق علاج فعَّالة لهذه المشكلة، وهى أن هذا التضخم ليس وليد هذه الفترة التى أعقبت قرار تحرير أسعار الصرف بعد إقدام "المركزى" عليه فى مطلع نوفمبر من العام الماضى، فهو بالفعل قد يكون ترك آثارًا بالغة على معدلات التضخم بعد اتخاذه، لكن هذه المعدلات لم تكن مُتدنية فيما مضى كما تظهر المقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، حيث كانت كافة العوامل التى أنتجت هذا الارتفاع حاضرة وعلى نحو يفوق ما هى عليه الآن، ابتداءً من زيادة معدلات الاستهلاك الخاص ونمو الواردات على حساب الصادرات، ومرورًا بسوق صرف غير مستقر يفسح الطريق للمضاربة على النقد الأجنبى وتحكم السوق الموازية فى المعروض منه، على نحو دفع الأسعار للارتفاع بصورة متواصلة، فى الوقت الذى تراجعت فيه معدلات الإنتاج نتيجة تباطؤ نمو النشاط الاقتصادى، وانتهاءً بنمو الإصدار النقدى الذى انعكس على معدلات نمو السيولة المحلية، بما لذلك من انعكاسات سلبية على القوى الشرائية للعملة المحلية، وهو الوضع الذى فرضه نمو عجز الموازنة العامة نتيجة نمو الالتزامات بوتيرة أعلى كثيرًا من الإيرادات، على مدار الأعوام الستة الماضية.
التضخم إذًا ليس نتاجًا مجانيًا لتحرير أسعار الصرف، وإنما هو مُحصلة طبيعية لعوامل هيكلية لن يكون لجمه بالمهمة المواتية دون العمل على تلافى وجود هذه العوامل كليًا أو جزئيًا، وبمقدار السيطرة عليها يتحقق هذا الهدف.. لهذا ينبغى التعرف على هذه العوامل جيدًا ومعرفة ما إذا كانت ما تطبقه الحكومة والبنك المركزى من إجراءات إصلاحية، تتمتع بصفتى الكفاءة والكفاية اللازمتين لإنجاح ذلك.. وهذا ما سنسعى فى السطور التالية لاستطلاعه .
الحد من التوسّع فى الإصدار النقدى
لابد أن نقرّر فى البداية أن هناك 5 عوامل تحكمت بصورة أو بأخرى فى إنتاج "التضخم" الذى نعانى منه فى الوقت الراهن، وهى جميعًا فى حاجة للسيطرة عليها حتى يعود المستوى العام للأسعار الذى يفترض أنه الهدف الأسمى للسياسة النقدية التى يتبعها البنك المركزى إلى حالة الاستقرار المنشود التى تسمح بانتعاش النشاط الاقتصادى، وكذلك كفالة حياة كريمة للمواطنين تراعى تناسب مستويات الدخول والمستوى العام للأسعار، وفى تقديرنا أنه يمكن البدء بالعامل الأبرز الذى استهدفه "المركزى" بإجراءاته الأخيرة، وهو الحد من التوسع فى الإصدار النقدى الذى ميّز مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير وحتى وقت قريب مضى، وكان لها أثر بالغ على المنحنى العام للأسعار ومعدلات التضخم.
تسهل ملاحظة التغير الذى شهده وضع السيولة المحلية خلال السنوات الست الأخيرة وفى وقت سابق على تحرير أسعار الصرف بسنوات، حيث كان حجم السيولة المحلية قد وصل إلى نحو 1.09 تريليون جنيه فى يونيو 2012 وفقًا للأرقام المعلنة من جانب البنك المركزى ارتفعت فى نفس الفترة من العام التالى إلى 1.29 تريليون جنيه، واصلت بعدها الارتفاع إلى نحو 2.09 تريليون جنيه خلال الفترة المناظرة من 2016، أى أنها قاربت على الزيادة بمقدار 100% خلال 4 سنوات وذلك قبل انعكاس آثار تحرير أسعار الصرف فى شهر نوفمبر من نفس العام، هذا بالرغم من نمو معدلات الناتج المحلى الإجمالى بنسب تراوحت سنويًا بين 2 و3%، وهذا لا يعنى سوى أمر واحد، هو لجوء الدولة إلى التوسع فى الإصدار النقدى عن طريق البنك المركزى بطبع المزيد من النقود وطرحها بالأسواق دون غطاء موازٍ من السلع والخدمات التى كان يفترض أن يكون معدل نمو طرحها مكافئًا نسبيًا لمعدل التوسع فى الإصدار النقدى لكن معدلات الإنتاج لم تكن تسمح بذلك .
الحكومة كانت مضطرة لمواجهة التزاماتها ومعدلات نموها المُتسارعة فى ظل ارتفاع معدلات الأسعار العالمية، وتزايد الضغوط الداخلية بسبب تنامى المطالب الفئوية التى اضطرت الحكومة للاستجابة لها رغبة فى استعادة الاستقرار الداخلي، لكن ذلك ولد ضغوطاً تضخمية هائلة لم يكن من سبيل لمواجهتها قبل عام 2016، حتى قررت الدولة اتباع إجراءات إصلاحية صارمة، كان أهمها تحرير أسعار الصرف تحريرًا كاملًا وهو ما عرف بـ "التعويم" وذلك لإنهاء مرحلة التوسع فى الإصدار النقدى، وبدء مرحلة من تسعير العملة الوطنية على أساس القوى الشرائية الحقيقية لها مقابل العملات الدولية الرئيسية، وبطبيعة الحال كانت النتائج صادمة لأن هذا الوضع التصحيحى كشف كيف كان الثمن فادحًا والذى تم دفعه على مدار سنوات قليلة، حيث ظهر أن الجنيه كان مقومًا بأكثر من قيمته الحقيقية بنحو 70%، وللأسف أن الممارسات الضارة للسوق الموازية للعملة والتى تسبّبت فى مزيد من التضخم نتيجة عمليات المُضاربة التى تمت على حساب العُملة الوطنية والتى شارك فيها قطاع كبير من المواطنين عبر عمليات "الدولرة" للمدخرات والمتاجرة فى النقد الأجنبى والذى تكشفت عواقبه بعد هذه الإجراءات عندما انعكس سلبًا على ارتفاع المستوى العام للأسعار بعد نوفمبر 2016.
ما الذى يتعين على الحكومة فعله إذًا إزاء هذا الوضع للجم الارتفاع الذى تعرّضت له معدلات التضخم، وإصلاح ما أفسدته السياسات الاستثنائية؟!
لا مناص أمام الحكومة من التوقف تدريجيًا عن التوسع فى الإصدار النقدى، والدفاع عن استقرار المستوى العام للأسعار، وهو التوجّه الذى تبنته على نحو صريح منذ تحرير أسعار الصرف فى نوفمبر الماضى خاصة مع وجود بوادر أولية على تحسّن القوى الشرائية للجنيه مع التراجع الذى تشهده معدلات صرف الدولار الأمريكي فى مواجهته بالأسواق، وتحقيق فائض حقيقى بميزان المدفوعات تجاوز 11 مليار دولار فى نهاية مارس الماضى.
السيطرة على معدلات الاستهلاك الخاص
العامل الثانى الذى يعد مسئولًا عن ارتفاع معدلات التضخم خلال هذه الفترة، من واقع التطورات التى شهدها الاقتصاد، هو ارتفاع معدلات الاستهلاك الخاص بالرغم من تراجع معدلات الإنتاج المحلي، وعدم نمو الناتج المحلى السنوى بمستويات مناسبة لنمو هذا الاستهلاك، الأمر الذى انعكس على المستوى العام للأسعار، حيث قل الإنتاج وارتفع الاستهلاك الخاص فى ظل وجود نمو بالسيولة المحلية، وهى الشروط التقليدية لارتفاع التضخم بالأسواق، فجمهور المستهلكين يزيد ميلهم الحدى للاستهلاك فى ظل عرض أقل للسلع والخدمات، وسط وفرة من السيولة المحلية التى لا تعكس القوى الشرائية الحقيقية للعملة المحلية، فتكون المحصلة ارتفاع للمستوى العام للأسعار وهو ما حدث بالفعل حيث بلغت نسبة نمو الاستهلاك الخاص فى نهاية العام المالى 2015/2016 نحو 4.6% تراجعت فى نهاية الربع الثالث من العام المالى 2016/2017 إلى نحو 4.4%، فى الوقت نفسه الذى تراجعت فيه معدلات الاستهلاك العام من نحو 3.6% إلى نحو 2.4%، وهو ما يعنى أن الاستهلاك الخاص كان العامل الأكثر نشاطًا فى هذه الظروف بكل ما ينطوى عليه ذلك من مظاهر الاستهلاك الترفى الذى أثر سلبًا على عامل آخر سوف نأتى على ذكره لاحقًا .
هذا الخلل أوجد ضغطًا مستمرًا على الأسعار بالأسواق، خاصة مع ميل البنوك فى ظل تباطؤ معدلات النشاط الاقتصادى إلى التوسع فى تمويل الاستهلاك الخاص عبر نمو عمليات التجزئة المصرفية وإقراض الأفراد، حيث تنافست فيما بينها على إتاحة هذا النوع من الائتمان، وسط عرض أقل نشاطًا للسلع والخدمات بالسوق ما زاد من تفاقم الآثار التضخمية قبل أن يتدخل البنك المركزى العام الماضى لتقييد هذا التوجه والحد من مخاطره.
والمطلوب خلال المرحلة الراهنة، أن تتواصل جهود البنك المركزى للحد من تمويل الاستهلاك الترفي، وتشجيع الادخار المحلى لتقليص معدلات السيولة المتاحة للاستهلاك الخاص، وعلى الحكومة من جانبها زيادة الإنفاق العام الاستثمارى، وتشجيع القطاع الخاص على الإنفاق الاستثمارى بدوره لتحسين كفاءة إدارة جانب العرض الكلى للسلع والخدمات، وهو ما سيقود على المديين المتوسط والطويل إلى السيطرة على معدلات التضخم.
العمل على زيادة معدلات الإنتاج
عامل ثالث كان له أثر بالغ فى تطور معدلات التضخم على النحو الذى تصاعدت به خلال السنوات الأخيرة، وتضافرت تداعياته مع العامل السابق فى تعميق معاناة الاقتصاد الوطنى، ففى الوقت الذى زادت فيه معدلات الاستهلاك الخاص، ظلت معدلات الإنتاج تواصل نموها عند مستويات لا تتناسب مع متطلبات هذه الفترة، ويكفى أن نلاحظ أن القطاعين الأكثر مساهمة فى الناتج المحلى الإجمالى، وهما على التوالى قطاعا الصناعات التحويلية، والزراعة، كانت معدلات نموهما مُتدنية حيث ساهم الأول فى نهاية الربع الثالث من العام المالى 2016/2017 بنحو17.4% من هذا الناتج وذلك بتكلفة عوامل الإنتاج وبأسعار السوق الجارية، فيما بلغت مساهمة القطاع الزراعى خلال نفس الفترة نحو 12% من هذا الناتج، ومع ذلك تراوحت معدلات نموهما السنوية عند مستويات متواضعة خاصة فى القطاع الأول الذى بلغت فيه نحو 0.8% خلال العام المالى 2015 /2016 قبل أن تعاود التحسّن فى العام التالى وترتفع إلى نحو 2.7%، فيما استقرت معدلات نمو القطاع الثانى عند مستوى 3.1% سنويًا على مدار 3 سنوات وفقًا للأرقام المُعلنة من جانب البنك المركزى، وهى كما تبدو معدلات لا تتناسب على الإطلاق مع إسهامات كل منهما فى الناتج المحلى، ولا تعطى أفقًا لتصوّر إمكانية مواكبة نمو الناتج المحلى لمعدلات التضخم المُتصاعدة.
هذا الوضع يؤثر سلبًا بصورة مباشرة على الخلل القائم على جانبى العرض والطلب الكليين نتيجة تضخم حجم السيولة بالسوق وهو ما يعزز من جانب الطلب على حساب جانب العرض مع فقدان القدرة على زيادة الإنتاج بمعدلات نمو قادرة على مواكبة معدلات زيادة هذه السيولة، لتصبح فى نهاية المطاف هى كمية السلع والخدمات نفسها التى يتم إنتاجها أو تقديمها فى مواجهة عرض أكبر من السيولة لشرائها، فتنخفض بذلك القوى الشرائية للجنيه فترة بعد أخرى وهو الوضع الذى ظل الاقتصاد الوطنى يراوح عنده لسنوات.. سيولة تشهد نموًا مُتزايدًا لا يواكبها إنتاج حقيقي، وإذا استمر ذلك فإن الوضع سينذر بكارثة، فمثلما يتعين الامتناع عن التوسع فى الإصدار النقدى كما أشرنا، يتعين كذلك السعى إلى زيادة الإنتاج بمعدلات أعلى مما تحقق على مدار السنوات الست الماضية.
وبالتالى فإن كل من الحكومة والبنك المركزى مدعوان لإتخاذ التدابير اللازمة لعلاج هذا التشوه بالعمل على امتصاص فوائض السيولة بتشجيع الادخار المحلى وجذب المعروض الزائد إلى داخل الجهاز المصرفى وتشجيع المنتجين على زيادة معدلات الإنتاج، وكذلك تسهيل دخول سوق النشاط الاقتصادى أمام قوى الإنتاج الجديدة التى تتمثل فى أصحاب المشروعات الصغيرة الراغبين فى دخول السوق فى ظل المبادرات التى تستهدف الدولة بها هذا القطاع خلال الفترة الراهنة، والتى يمكن أن تمثل تحولًا مهمًا نحو الإصلاح الحقيقي.
علاج التشوّه الناجم عن "النهم" الاستيرادي
وسط التداعيات التى أشرنا إليها للعوامل السابقة، كان للعامل الرابع المؤثر فى هذا السياق دورٌ بالغٌ فى تعاظم الأثر السلبى لها جميعًا، ففى الوقت الذى عانت فيه السوق من تنامى الإصدار النقدى، وزيادة معدلات الاستهلاك الخاص، وضعف نمو الإنتاج المحلى، استغل التجار والمستوردون منهم بصفة خاصة ضعف تنافسية المنتج المحلي، وارتفاع سعره بتكلفة عوامل الإنتاج مقارنة ببعض السلع المستوردة من الخارج، وبصفة خاصة السلع صينية المنشأ لإغراق الأسواق بكميات كبيرة منها حتى أن حجم الواردات القادمة من الصين وحدها فاق فى عام 2015 نحو 10 مليارات دولار مثلت أكثر من 15% من الواردات التى دخلت السوق المحلية عبر المنافذ الشرعية، خلاف ما تم تهريبه إلى الداخل منها، ليتشابك هذا الوضع مع حالة النمو المضطرد فى معدلات الاستهلاك الخاص، ليصبح الميل الحدى إلى الاستهلاك معتمدًا على هذه النوعية من السلع، وغيرها من السلع الترفيهية التى مثلت ضغطًا هائلًا على مصادر الدخل الوطنى بالنقد الأجنبى التى تعرّضت فى الأصل للانكماش بفعل تراجع الإيرادات من النشاط السياحى، وعدم نمو الإنتاج وبالتالى الصادرات بمُعدلات مقبولة، وكذلك تراجع معدلات تدفق الاستثمار الأجنبى المباشر، الأمر الذى أدى إلى اختلال القوى الشرائية للعُملة المحلية على نحو أكبر أمام العُملات الدولية الرئيسية، وبصفة خاصة الدولار الأمريكى.
لم يقتصر هذا الوضع السلبى على الأعراض السابقة، وإنما امتد إلى تهديد الاحتياطيات الدولية من العُملات الأجنبية لدى البنك المركزى والتى تعرّضت للتآكل بفعل اضطراره إلى التدخل لتعويض نقص الموارد من النقد الأجنبى لدى البنوك لتمويل فتح الاعتمادات المستندية لعمليات الاستيراد، فى وقت لجأت فيه قوى السوق الموازية والمضاربون للاستحواذ على المعروض من النقد الأجنبى للحيلولة دون وصوله إلى البنوك، واستخدام ذلك فى المضاربة على أسعار عرضه بالسوق، ليقود ذلك إلى الضغط على القوى الشرائية للجنيه، واستنزاف الغطاء النقدى له من الاحتياطيات الدولية التى تعرّضت لمزيد من التآ كل، قبل أن يتدخل البنك المركزى لتقييد الواردات بالتنسيق مع الحكومة، وفى نفس الوقت التوقف عن تمويل الاستيراد الترفى سواء عن طريق تقليص فتح اعتمادات الاستيراد، أو عن طريق تقييد تمويل البنوك للاستهلاك الخاص عن طريق قروض التجزئة المصرفية، وائتمان الأفراد التى كانت السوق المصرفية قد توسعت فى الاعتماد عليها لتعويض تراجع معدلات الائتمان الموجه إلى المشروعات والأنشطة الإنتاجية.
وجاء قرار تحرير أسعار الصرف فى نوفمبر الماضى ليستكمل منظومة الإصلاحات الهادفة إلى إصلاح الخلل فى هذا الجانب، ليقود ذلك فى نهاية المطاف إلى تراجع الواردات على نحو ملحوظ فى نهاية الربع الثالث من العام المالى 2016 /2017، وتحقيق ميزان المدفوعات لفائض كلى بلغ نحو 11 مليار دولار لأول مرة منذ عام 2010.. وبطبيعة الحال فإن السيطرة على الميل الحدى للاستيراد الترفى، وكذا الميل الحدى للاستهلاك الخاص، تقتضى مواصلة هذا النهج والاستمرار فى سياسات الإصلاح التجارى والنقدى معًا، مما يبشر فى المدى المتوسط للسيطرة على معدلات التضخم.
تعزيز آليات الصرف الحر.. والدفاع عن العُملة الوطنية
العامل الأخير الذى ساهم فى خلق هذه الأوضاع التى قادت إلى ارتفاع معدلات التضخم، ولعله العامل الأكثر تشابكًا مع مختلف العوامل الأخرى السابقة، هو سعر صرف العملة الوطنية الذى تأثر سلبًا بانعكاساتها جميعًا، سواءً فيما يتعلق بالتوسع فى الإصدار النقدى حيث كان المفعول سريعًا بخسارة "الجنيه" لقواه الشرائية تدريجيًا، ثم فاقم نمو الاستهلاك الخاص من الضغط عليه خاصة مع اندفاع هذا الاستهلاك لاستهداف السلع المستوردة، وأدى تباطؤ معدلات الإنتاج إلى فقدانه لفرص التعويض النسبى لخسائره، على أن المضاربة فى سوق الصرف كان لها الأثر الأعمق فى نحر القوى الشرائية للعملة الوطنية، حيث تعرضت قيمة الجنيه للتآكل على نحو أسرع بفعل هذه المضاربة من أجل جنى بعض تجار العملة لأرباح ارتفاع أسعار صرف العملات الدولية الرئيسية وبصفة خاصة الدولار، أمام الجنيه، حتى أصبح لا مناص أمام السلطة النقدية من تحرير أسعار الصرف للقضاء على هذه المضاربة، والاقتراب من سعر عادل للعملة الوطنية مع تزايد الإصدار النقدى وزيادة الفجوة السعرية فى مجال الصرف مع الدولار والعملات الدولية الأخرى لصالح هذه الأخيرة على حساب الجنيه، ليتم اتخاذ هذه الخطوة الجريئة من قبل السلطة النقدية فى نوفمبر الماضى.
ورغم أهمية هذه الخطوة، وكونها فى المقام الأول خطوة تصحيحية تهدف إلى إزالة التشوهات التى انتجت الأعراض التضخمية التى عانى منها الاقتصاد الوطنى لعدة سنوات إلا أنها فى حد ذاتها جلبت صدمة تضخمية قصيرة الأجل، انعكست على سبيل المثال على حجم الناتج المحلى الإجمالى مقومًا بالعملة الأمريكية حيث تراجعت قيمة هذا الناتج بالمقدار الذى عكسته العلاقة بين "الجنيه" و"الدولار" بعد تحرير أسعار الصرف، كما اتخذ العديد من التجار ذلك ذريعة لزيادة أسعار السلع والخدمات، حتى محلية المنشأ منها، ومع ذلك فإن هذه الخطوة أنهت وإلى الأبد المضاربة على أسعار الصرف ولم يعد التهديد بتآكل القوى الشرائية للعملة مرهونًا بالمضاربات وإنما بما تعكسه علاقات التبادل التجارى ووفرة الرصيد الاحتياطي من النقد الأجنبى لدى البنك المركزى، وجميعها مؤشرات أخذت فى التحسن ومستمرة مما يدعم الاعتقاد بإمكانية السيطرة على معدلات التضخم بالاعتماد على عوامل هيكلية فى بنية وإدارة الاقتصاد الوطنى.
ومع التطور الذى تشهده سوق الصرف حاليًا من استقرار نقدى يظهر جليًا فى سعر صرف الدولار والعملات الدولية الرئيسية، وكذلك اتجاه المنحى العام للصرف إلى تعزيز سعر العملة المحلية، وارتفاعها فى مواجهة تلك العملات تدريجيًا منذ شهر يوليو الماضى، وينتظر أن يتواصل هذا التوجه ويزداد إيقاعه خلال الفترة القادمة الأمر الذى يعزز من فرص تراجع معدلات التضخم، لأن استعادة العملة لعافيتها وزيادة قوتها الشرائية يعنى مباشرة حدوث هذا التراجع، فعندما ترتفع الأسعار لا يُعادلها سوى اكتساب العُملة الوطنية قوة صرف تمكنها من إحداث هذا التوازن، وما يضيف إلى قوة العملة مؤخرًا ما حدث من تطور فى أرصدة الاحتياطيات الدولية لدى البنك المركزى والتى زادات على 36 مليار دولار فى نهاية يوليو الماضى، وهو بالقطع نقطة دعم إضافية تظهر جدوى الإصلاح النقدى الذى انتهجه البنك خلال عام 2016 وتواصل حتى الآن بعد الإقدام على تحرير أسعار الصرف.
ويمكن القول فى نهاية السطور السابقة بأن العمل الجاد والواعى لتلافى تكرار إنتاج شروط البيئة التى نشطت خلالها العوامل السابقة وتسبّبت فى تفاقم هذه الأزمة.. وهو أمر يُمكن حاليًا الثقة فى إمكانية تحققه بعد هذا العرض.