لا نجاوز الحقيقة إذا تحدّثنا فى السطور التالية عن عام 2017، باعتباره على الصعيد الاقتصادى، معطى فى كل تحولاته الهامة لإجراء هيكلى أعاد صياغة مشروعه للمستقبل، ولم تنج تفصيلة صغيرة أو كبيرة من انعكاساته عليها.. نتحدّث عن القرار الجريء والتاريخى الذى اتخذ فى شهر نوفمبر من العام السابق عليه والذى أقدم عليه البنك المركزى بقيادة طارق عامر بعد دراسة مُتأنية حسمت فى ذلك التوقيت اتخاذه كعلاج جذرى للعطب الذى أصاب سوق الصرف الأجنبى فى مصر منذ مطلع عام 2011 وتفاقم على نحو لم يعد من اليسير تعايش الاقتصاد الوطنى معه خلال تجربة الإصلاح الاقتصادى فى ظل وجود سوق موازية للصرف الأجنبى، استطاعت تدمير احتياطيات من النقد الأجنبى كانت قد تجاوزت 34 مليار دولار خلال 2010، والضغط على سعر صرف العملة المحلية مقابل الدولار الأمريكى على نحو أفقدها خلال 6 سنوات ما يقرب من نصف قيمتها وقوتها الشرائية.
فى السطور التالية سوف نقدّم نمط قراءة وتحليل مُغايرًا لما اعتاد عليه القارئ، يعرفها خبراء التحليل المنهجى بطريقة "البرهان بالخلف" لاكتشاف ماذا كانت لتصبح عليه أوضاع الاقتصاد الوطنى لو أن مثل هذا القرار لم يكن قد أتخذ فى توقيته المناسب، أو كان قد تأخر لتوقيت غير مُسمى.
لابد من الاعتراف فى البداية بأن بعض إجراءات الإصلاح تقترب فى طبيعتها وخطورتها من التدخل الجراحى الذى يتسم بأنه يتجاوز إجراءات العلاج التقليدى التى يحتاج إليها المريض عندما تصل حالته وضعًا لا يجدى فيه العلاج الدوائى نفعًا، وهو تقريبًا ما كان وضع الاقتصاد قد وصل إليه فى عام 2016، وبالتالى على من عانى تكلفة هذا التدخل المُرهقة أن يدخل معنا إلى العالم الافتراضى لاستبعاد التدخل الجراحى الذى جرى فى 3 نوفمبر 2016، والذى سنحاول عرض ملامحه كاملة لنكتشف بدائل صانع القرار الاقتصادى والخيارات التى كانت مُتاحة أمامه آنذاك.
-
مفارقة السعر الإسمى والحقيقى..!
وقع المواطن منذ سنوات عديدة ضحية اعتبارات فنية لا يُدرك أبعادها سوى صانع القرار، استمر خلالها هذا الصانع فى الدفاع عن سعر إسمى للعُملة الوطنية فى مُواجهة العُملات الدولية يعطى المالية العامة للدولة قدرًا من الانضباط والحفاظ على قيمة ثابتة للأصول الوطنية، إلا أن هذا المعطى مع التغير التراكمى للقيمة السوقية للعملة تعرّض للنحر والتآكل، حتى أصبح عبئًا على الصانع والمواطن معًا على السواء، لأن علاقته بالعامل الأهم فى تحديد وقياس هذا السعر، وهو مستوى التبادل التجارى مع العالم الخارجى الذى يعكسه وضع الميزان التجارى، حيث تتحدد قوة أى عملة فى سوق الصرف الحر بمقدار الطلب عليها لمقابلة منحنى الطلب الخارجى على إنتاجها من السلع المختلفة، وهو فى الحالة المصرية وضع تعرّض للتدهور فى أعقاب ثورة 25 يناير، مع تراجع معدل الإنتاج المحلى فى مصر ومن ثم تراجع الصادرات المصرية إلى الخارج، مقابل نمو الواردات إليه على نحو ملحوظ بدعم من ثبات سعر الصرف الإسمي فى الداخل، الذى ساعد التجار والمستوردين على تحقيق ثروات ضخمة، بل وزاد من تفاقم هذا الوضع قيام البنوك بتمويل الطلب الاستهلاكى بالسوق المحلية، ليزداد الضغط على أسعار الصرف نتيجة ارتفاع الطلب على العُملات الأجنبية بوجه عام والدولار الأمريكى بوجه خاص لمقابلة فتح الاعتمادات الاستيرادية المُتزايدة، التى عجزت البنوك عن الاستمرار فى فتحها ليتزايد اللجوء إلى السوق الموازية لتحقيق ذلك بفروق عملت على زيادة الفجوة بين السوقين على نحو مُتواصل، فى الوقت الذى استمرت فيه السوق المصرفية فى تمويل معدلات الاستهلاك المُتزايدة.. ليصبح الوضع الاقتصادى بالغ الدقة والحرج.. إنتاج مُتراجع أدى إلى معدل نمو سلبى للنشاط الاقتصادى، وطلب استهلاكى نهم تدّعمه تمويلات البنوك عبر قروض التجزئة المختلفة، الأمر الذى أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم نتيجة ارتفاع تكلفة فاتورة الواردات على نحو شهرى، فى ظل تراجع معدلات العرض الكلى للسلع والخدمات، دون أن يُدرك المواطن حقيقة ومقدار الضرر الذى يصيبه نتيجة وجود سعر صرف اسمى غير حقيقى للجنيه أمام الدولار، بينما توجد على الجانب الآخر سوق موازية تضارب على سعر صرف العملة الأمريكية مقابل الجنيه، حتى اقترب سعر صرف الدولار قبل تحرير أسعار الصرف من 20 جنيهًا للدولار الواحد، وكانت التوقعات ترشح الدولار للاقتراب من مستوى 25 جنيهًا قبل صيف 2017 وختام العام المالى 2016 /2017، كما كان معدل التضخم السنوى قد تصاعد 30% فى نهاية أكتوبر2016 قبل ذلك الإجراء الحاسم.
هذا ما كان عليه الوضع عشية اتخاذ إجراء تحرير أسعار الصرف، ما بين سعر إسمى مُضلل وسعر سوقى مُجحف تعرّض للمُضاربة وقاد إلى ارتفاعات كبيرة لمعدل التضخم.. فى مثل هذا الوضع، لو أن هذا الإجراء لم يُتخذ إلى الآن ربما كان سعر صرف الدولار ليُلامس حدود الثلاثين جنيهًا وفقًا لوتيرة ارتفاع أسعار الصرف التى سادت خلال عامى 2015 و2016، وهو ما يعنى مزيدًا من تحكم السوق الموازية فى تعاملات الصرف الأجنبى بمصر، ليترجم ذلك إلى مزيد من الضغوط على الاحتياطى النقدى من العُملات الأجنبية لدى البنك المركزى، وبالتالى مزيدًا من الانهيار للقوى الشرائية للجنيه، تتفاقم معها معدلات التضخم، التى كانت قد وصلت إلى مستويات قياسية، وفى حال استمر هذا الوضع، فإن البنك المركزى كان ليصل بأرصدة الاحتياطى لتغطية أقل من 4 أشهر من تكلفة استيراد السلع الأساسية، وهذا كان كفيلًا بزعزعة استقرار الاقتصاد الوطنى، وتفاقم عجز الموازنة دون وجود مصادر لتمويل هذا العجز نتيجة ارتفاع تكلفة الاستدانة الداخلية، واقتراب حجم الاستدانة العامة من تجاوز حجم الناتج المحلى الإجمالى، لتزداد الأوضاع الاقتصادية تعقيدًا، وهو ما كان ليُهدد بدوره قبول جهات التمويل الخارجية ودول نادى باريس تقديم التمويل الذى تحتاج إليه الدولة فى مثل هذا الوضع، لنتخيل بعدها أى مصير كان لينتظر الاقتصاد الوطنى فى مثل هذه الظروف، وهو ما يُبرر قسوة العلاج الذى تجرعه المواطن مع تطبيق مشروع الإصلاح الناجز الذى بدأ بتحرير أسعار الصرف.
مع ذلك العلاج القاسي الذى اتخذه البنك المركزى بتحرير أسعار الصرف، وبرغم ارتفاع معدلات التضخم على نحو مُتسارع نتيجة هذا الإجراء، فقد زال وهم ثبات السعر الإسمى الذى لم يكن ليعبر مرة عن قوة الاقتصاد، وإنما على العكس وقف حائلًا دون الإصلاح الناجز، وبزواله، أصبح سعر الصرف الأجنبى بالسوق المحلية معطى مباشرًا لآليات العرض والطلب ومع زوال السوق الموازية تدريجيًا استعادت السوق المصرفية زمام السيطرة على المعروض من النقد الأجنبى لتبدأ مرحلة من الاستقرار النقدى، أبرز ملامحها زيادة الاحتياطات الدولية من النقد الأجنبى لدى البنك المركزى لتتجاوز لأول مرة منذ نحو عقدين من الزمن أو أكثر 37 مليار دولار كما اختفت قوائم الانتظار لفتح اعتمادات الاستيراد بالبنوك، وأصبحت هذه الأخيرة بعد سنوات قادرة على تمويل عمليات التجارة الخارجية من مواردها الذاتية فقدمت منذ تحرير أسعار الصرف وحتى 21 ديسمبر الماضى أكثر من 70 مليار دولار.. كما أن هذا الاستقرار النقدى ساهم فى تراجع معدلات التضخم السنوى من نحو 30% فى نهاية أكتوبر 2016 إلى نحو 25% نهاية أكتوبر الماضى، وازدادت الثقة الدولية فى أداء الاقتصاد الوطنى وهو ما برهن عليه تحسن النظرة المستقبلية التى كشفت عنها مؤسسات التصنيف الدولى له، وكانت آخرها مؤسسة "ستاندرد آند بورز" التى حسَّنت هذه النظرة وقامت برفعها من "مستقر" إلى "إيجابى".. خلاف الإشادات المستمرة لصندوق النقد الدولى بخطوات الحكومة المصرية على صعيد الإصلاح الاقتصادى فى كل مُراجعة دورية يتم إجراؤها قبل ضخ شريحة جديدة من التمويل المُتفق عليه بين الجانبين والبالغ قوامه 12 مليار دولار.
هكذا أصبح الوضع، وكان من الممكن أن يكون على النحو السابق الذى عرضناه لو أن مثل هذا الإجراء كان قد تأخر، فالمعاناة كانت لتصبح أكبر كثيرًا عمّا مرّ به المواطن، بل ربما لو تأخرت ما كانت لتأتى بهذه الثمار على الإطلاق.
-
مُتلازمة "التضخم" و"عجز الموازنة"
يُخطئ البعض فى الاعتقاد بأن تحرير أسعار الصرف كان وحده وراء ارتفاع معدلات التضخم، أو أن الارتفاع الذى شهدته معدلاته كان من الممكن تفاديه لو أن هذا الإجراء لم يكن قد تم اتخاذه من جانب البنك المركزى، وهو اعتقاد يجانبه الصواب تمامًا، لأن العلاقة بين تحرير أسعار الصرف والتضخم ليست طردية على طول الخط، بالرغم من أنها فى بداية عملية التحرير يتعرض المستوى العام للأسعار لصدمة تضخمية، يتصاعد الشعور بها فى البداية، غير أنه وبمضى الوقت لا تلبث الموجة التضخمية فى التراجع مُفسحة الطريق أمام الموجة التصحيحية لتحل محلها، ليتجه بعدها المستوى العام للأسعار نحو الاستقرار، ومن ثم تراجع معدلات التضخم، وليس أدل على ذلك من تحقيق المعدل السنوى للتضخم فى نهاية نوفمبر الماضى تراجعًا بنسبة تقترب من 5 % عمّا كان عليه فى نهاية أكتوبر 2016 حيث كان قد بلغ 30.82% مقابل 25.98%، بعد نحو عام من الصدمة التضخمية التى صاحبت إجراء تحرير أسعار الصرف.
وحتى نفهم هذه العلاقة الدقيقة بين التضخم وأسعار الصرف، ويُدرك معنا المواطن البسيط حقيقة هذا الوضع نعود مرة أخرى لـ "برهان الخلف"، ونتخيل كيف كانت لتبدو عليه معدلات التضخم لو أن هذا الإجراء لم يُتخذ.. السلطة النقدية ممثلة فى البنك المركزى، كانت لتستمر فى الدفاع عن القيمة الإسمية للجنيه من أرصدة احتياطيات النقد الأجنبى لديه، فى الوقت الذى كانت السوق الموازية لتستمر فى المُضاربة على أسعار الصرف مُبتعدة بالفارق بين جنيه الدولة والجنيه الحقيقى الذى يتراجع يومًا بعد آخر إلى حدود لم يكن أحد ليعلم مُنتهاها، ومعها كان المستوى العام لأسعار السلع والخدمات ليرتفع مُلحقًا ضررًا بالغًا بمُعدلات التضخم، التى كان من الممكن أن تقترب فى أكثر السيناريوهات تفاؤلًا من حاجز الـ 40% وهو معدل قياسى لم تصل إليه الأسعار فى السوق المحلية، فقط وفقط إذا تحققت توقعات بعض المُراقبين بوصول الدولار فى السوق المحلية إلى 25 جنيهًا للدولار الواحد، وهو مستوى لا يُعد مُبالغًا فى تقديره مقارنة بمعدلات الارتفاع اليومى للعملة الأمريكية بالسوق الموازية منذ أواخر 2015 وخلال 2016 وحتى تحرير أسعار الصرف.. الأمر صادم، لكنها حقيقة الوضع الذى كان من الممكن أن ينتهى إليه الحال لو أننا تأخرنا إلى العام الجديد لاتخاذ مثل هذا القرار.
الأمر لا يقتصر على هذا الحد من التهديد، بل يزداد الأمر خطورة إذا ما تم استدعاء الجانب الآخر من هذا المشهد فثمة حالة لازمت كل صعود فى سعر صرف الدولار الأمريكى أمام الجنيه، حيث اضطر البنك المركزى فى كل مرة يحدث فيها ذلك إلى الدفاع عن السعر الإسمى الذى لم تكن له أي علاقة بواقع التعاملات بالسوق، بالتخلى عن مزيد مما فى حوزته من احتياطيات بالنقد الأجنبى، حدث ذلك على نحو لافت خلال العامين السابقين على تحرير أسعار الصرف حتى تراجعت أرصدة الاحتياطى إلى حدود 15 مليار دولار كانت تكفى بالكاد 3 أشهر أو أكثر قليلًا من واردات السلع الأساسية، والأخطر من ذلك كان اضطراره إلى التوسع فى الإصدار النقدى لمجاراة ارتفاعات الدولار الأمريكى فى السوق المحلية من جهة، وتلبية احتياجات الحكومة من الإنفاق الجارى من جهة أخرى، فكان يُعزّز من ارتفاع معدلات التضخم على نحو أكبر مما كان يمكن حدوثه فى حال تمت تهيئة الوضع الاقتصادى لتحرير أسعار الصرف فى وقت سابق، ويكفى أن نتأمل الأرقام التالية لنكتشف فداحة الكارثة التى كانت مُحدقة بالقوة الشرائية للجنيه خلافًا لما يعتقده البعض، لقد كان الناتج المحلى فى نهاية 2015 يبلغ بأسعار الصرف قبل التحرير نحو 2.3443 تريليون جنيه ارتفعت فى 2016 قبل تحرير أسعار الصرف مباشرة نحو 2.709 تريليون جنيه، فى المقابل كان الإصدار النقدى (النقد المطبوع من قبل البنك المركزى) فى 2015 نحو 314.8 مليار جنيه، ارتفعت إلى نحو 369.3 مليار فى 2016 قبل تحرير أسعار الصرف، وهو حجم النقد الذى يُفترض أن يقابل المعروض من السلع والخدمات بالسوق، وبطبيعة الحال وبقدر ارتفاع الناتج المحلى بعد تحرير أسعار الصرف والذى قفز بقيمة الناتج المحلى مقومًا بالأسعار الجديدة للصرف إلى 3.470 ترليون جنيه، وكان من المفترض لو أن الأثر التضخمى لتحرير أسعار الصرف أن يتواصل نمو الإصدار النقدى من جانب البنك المركزى بمُعدلات مُضطردة، وهو ما كان يعنى تفاقم معدلات التضخم حتى الآن، لكن هذا لم يحدث فقد ارتفع حجم النقد المصدر فى فبراير 2017 إلى نحو 411.5 مليار جنيه، وبلغ ذروته فى اغسطس 2017 حيث وصل إلى نحو 462.8 مليار جنيه، تراجع بعدها إلى نحو 453.7 مليار جنيه فى الشهر التالى، ويقترب فى آخر رصد من جانب "المركزى" من نحو 431.8 مليار جنيه، وفى كل الأحوال عدم زيادة الإصدار النقدى فى حد ذاتها هى مؤشر على انتفاء حاجة البنك المركزى والحكومة إلى التوسع فى الإصدار النقدى لمُواجهة الضغط الذى كانت تفرضه السوق الموازية للصرف الأجنبى مع كل ارتفاع فى سعر صرف الدولار أمام الجنيه وتراجع القوى الشرائية للأخير جراء ذلك، ويتدخل المركزى بزيادة الإصدار لمواجهته.
إن هذا الوضع الجديد لمن لا يعلم أوقف نحر قيمة الجنيه لصالح المُضاربين، وحدّ من ارتفاع التضخم الذى كانت تتسبّب به سوق الصرف دون ارتباط لذلك بمستوى الأسعار الذى تتحكم به الأسعار العالمية للسلع المستوردة ومستويات جانبى العرض والطلب الكليين بالسوق المحلى.. ما حدث كان انتشالاً لمصر من كارثة مُحققة كانت لتحدث لو أن إجراء تحرير أسعار الصرف كان قد تأخر لوقت أبعد.
• التشوّه المرضى للميزان التجارى
جانب ثالث لا يقل أهمية عن سابقيه فى تخيّل ماذا كانت لتصبح الأوضاع عليه فى مجال التجارة الخارجية، لو أن قرار تحرير أسعار الصرف لم يكن قد أتخذ فى نوفمبر 2016، كنّا لنظل نعانى وضعًا بالغ الصعوبة على صعيد ميزان المدفوعات الذى تأثر سلبًا على نحو بالغ بحالة من التشوّه المرضى التى أصابت التجارة الخارجية لمصر مع العالم الخارجى فى ظل نمو مُريب لمعدلات الاستيراد بالتوازى مع ارتفاع مُضطرد لأسعار صرف الدولار بالسوق المحلية وبمعزل عن حركة الأسعار بالسوق العالمية، حيث استغل تجار السوق الموازية والمستوردون فروق الصرف بين السعرين الرسمى والسوقى فى إنعاش حركة التجارة مع الخارج على حساب مقدرات الاقتصاد الوطنى، وباستغلال حالة من الغفلة للبنوك العاملة بالسوق التى تكالبت فى ظل ضعف النشاط الإستثماري للتسابق فيما بينها على تمويل الإنفاق الاستهلاكى للمواطنين عن طريق التوسع فى قروض التجزئة للأفراد، حتى قام البنك المركزى باتخاذ قراره الجريء بتحرير أسعار الصرف وتوحيد سعر النقد الأجنبى بالسوق ليكتب نهاية السوق الموازية، مُعزّزًا ذلك بإصلاحات موازية للسوق المصرفية، أعادت تنظيم نشاط التجزئة وقروض الأفراد للحد من تمويل الإنفاق الاستهلاكى الترفى.
هذه الإجراءات مُجتمعة نجحت فى توفير 30 مليار دولار منذ تحرير أسعار الصرف كانت لتضيع فى واردات ترفية، كما صرح منذ أيام وزير الصناعة والتجارة المهندس طارق قابيل مُقارنة بما كان يحدث فى 2016، لو أن قرار تحرير أسعار الصرف لم يُتخذ فى توقيته، وهو ما انعكس بوجه عام على ميزان المدفوعات الذى تحوّل إلى تحقيق فائض كلى تجاوز فى نهاية العام المالى 2016 /2017 نحو 13 مليار دولار مقابل عجز كان قد تجاوز 3 مليارات دولار فى العام المالى السابق، وهو وضع كان مرشحًا عوضًا عن هذا التطور الإيجابى لكارثة مُحققة كانت لتعمق من جراح الاقتصاد الوطنى ودفعه -لا قدَّر الله- إلى حافة الهاوية، وهى النتيجة الطبيعية للاستمرار فى تمويل الواردات الترفية على حساب الاحتياطى النقدى لدى "المركزى" والقوى الشرائية للجنيه، ومعدلات التضخم كما رأينا.
لم يكن هذا الأثر الإيجابى وحده لتحرير أسعار الصرف على التجارة مع العالم الخارجى وميزان المدفوعات، وإنما امتد الأثر الإيجابى لمنح الصادرات المصرية وضعًا تفضيليًا فى الأسواق المستقبلة لها بسبب تراجع أسعارها، إلى جانب منح الصناعة الوطنية فرصة تعويض بعض الواردات عن طريق توجه الدولة لإحلالها محل الواردات وتقديم المساندة لها.
وكان الأثر الأهم كما قال لنا محافظ البنك المركزى طارق عامر فى تصريحات خاصة فى وقت مبكر من 2017، لهذه الإصلاحات هو أنها فرضت على السوق المحلية منتجين ومستهلكين تصويب ممارساته التى أدت إلى ارتفاع المستوى العام للأسعار من ميل حدّى إلى الاستهلاك، واستغلال فى المقابل من جانب التجّار لهذه الحالة لرفع معدلات الأسعار، وهو ما تحقق شيئًا فشيئًا لتصبح السوق مؤهلة لضبط الأسعار والحفاظ على المستوى العام لها مستقرة بما يسمح بسريان الأثر الإصلاحى إلى حياة المواطنين.
• الاستثمار الأجنبى يعود إلى طرق الأبواب
جانب رابع لا يمكن استبعاده من الصورة المُغايرة لعام 2018 لو أن قرار تحرير سعر الصرف لم يكن قد تم اتخاذه فى نوفمبر من العام قبل الماضى، هذا الجانب هو تدفق الاستثمار الأجنبى إلى الداخل، وهو عامل بالغ الأهمية فى التأثير على معدلات النمو الاقتصادى لكونها ترتبط مباشرة بالتوسع فى إقامة المشروعات وبالتالى عرض فرص العمل، وتحسن المستوى العام للدخول، ومن يتتبع التحولات التى تعرّض لها الاقتصاد على مدار السنوات السبع الماضية منذ ثورة 25 يناير وحتى الآن يستطيع أن يلحظ أن أحد أهم الآثار السلبية التى عانى منها خلال هذه الفترة ارتبط بالتراجع الكارثى فى معدلات تدفق الاستثمار الأجنبى إلى الداخل، وهو ما سعت الدولة إلى علاجه إلا أن كل ما قامت به تحطم عند عقبة ازدواجية سعر الصرف، رغم استقرار الحالة الأمنية التى مثلت عائقًا إضافيًا فى السنوات التى تلت الثورة مباشرة، وهو ما يمكن أن نلحظه فى الفارق بين تلك التدفقات فى نهاية العام المالى 2012 /2013 والتى بلغت نحو3.7 مليار دولار مقابل 6.9 مليار دولار فى العام المالى 2015 /2016 ارتفعت بعد تحرير أسعار الصرف فى العام المالى التالى إلى نحو 7.9 مليار، ومؤخرًا فى نوفمبر الماضى وبعد 5 أشهر من العام المالى الجارى إلى نحو 8.7 مليار دولار، فيما يمكن أن يمثل بادرة على الاقتراب من تحقيق طفرة فى تدفقات النقد الأجنبى إلى الداخل يمكن أن تصل بها إلى تجاوز حاجز العشرة مليارات دولار بحلول نهاية يونيو المقبل فى ختام العام المالى الجارى، وهو ما لم يكن من الممكن تحققه فى ظل تقلبات سوق الصرف قبل التحرير، حيث لم يكن المستثمر الأجنبى قادرًا على دخول السوق فى ظل سعرين أحدهما رسمى سيتم التحويل به عند الدخول، يتغير على نحو حاد عند الخروج من السوق وبفروق تزيد كثيرًا على معدلات الربحية التى يمكن تحقيقها، بخلاف صعوبات التحويل فى حد ذاتها عبر القنوات الرسمية لنقص المعروض لديها من النقد الأجنبى، ولهذا وجد "المركزى" أنه يصعب استمرار مثل هذا الوضع فى ظل الازدواجية السعرية التى لم يكن الخلاص منها ممكنًا بعيدًا عن الإقدام على تحرير أسعار الصرف.
وليس أدل على صحة تقديرات البنك المركزى من التحوّل الذى طرأ على تدفق استثمارات الأجانب فى أدوات الدَّين الحكومية (أذون الخزانة العامة) بعد تحرير أسعار الصرف والتى ارتفعت من رقم بالغ التدنى قبل تحرير تلك الأسعار بلغ فى نهاية العام المالى 2015 /2016 نحو 30 مليون دولار فقط إلى رقم بالغ الدلالة على زيادة ثقة المستثمر الأجنبى فى نظام الصرف وأداء الاقتصاد الوطنى بلغ نحو 18.9 مليار دولار فى نهاية شهر أكتوبر الماضى، وهو ارتفاع هائل، لم يكن ليتحقق فى غيبة التحرير الذى تم لأسعار الصرف.
وبالرغم من أن التحوّل الأخير يتعلق بالاستثمار الأجنبى غير المباشر الذى ينصب على الأوراق المالية فقط خلافًا للاستثمار المباشر إلا أن أداءه يستكمل الصورة المُضيئة لانعكاسات هذا الإجراء الخطير على الاقتصاد الوطنى، ولو أنه لم يتحقق حتى مطلع العام الجارى لكانت الصورة العامة بالغة السواد والصعوبة لمن يريد أن يتخيل ما كانت لتبدو عليه مؤشرات الاقتصاد الكلى التى استعرضناها، خاصة إذا علمنا أن "المركزى" اتبع ذلك بآلية تسمح للأجانب بتحويل عائدات استثماراتهم دون تأخير إلى الخارج وهى أحد أبرز شكاوى المستثمرين قبل اتخاذ هذا القرار ليزيد ذلك من معامل الثقة فى أداء الاقتصاد الوطنى، ويُحسّن كثيرًا من النظرة المستقبلية لهذا الاقتصاد، وهو الأمر الذى دعا مؤسسة عالمية للتصنيف الائتمانى مثل "ستاندرد آند بورز" لتعدّل من نظرتها المستقبلية للاقتصاد الوطنى من "مستقر" إلى "إيجابى" مؤخرًا.
هذه المؤشرات لا تكذب، ولا تستطيع التجمّل إلى القدر الذى يمكنها أن تغير من جوهر الإنجاز الذى تحقّق مع تحرير أسعار الصرف.. هذا ما يثبته منطق "البرهان بالخلف" الذى أكد أن أى فرضية بخلاف الإقدام على هذا التحرير كانت لتلقى بهذا الاقتصاد إلى مشارف الهاوية التى -لا قدّر الله- لم يكن من بعدها نجاة.. !!