اشرت في المقال السابق الي ان محافظ البنك المركزي الجديد هشام رامز سوف يواجه العديد من التحديات في مهمته وحددت ثلاث منها بوصفها الاكثر إلحاحاً وحاجة إلي تقديم الحلول, وبعد عرض طبيعة الصعوبات المحيطة بالتحدي الأول وهو "ترويض سعر الصرف" اتطرق في السطور التالية للتحدي الثاني وهو "حسم هوية السياسة النقدية" التي تستمد اهميتها من كون الانسجام الذي يفترض ان ينشأ فيما بينها وبين السياسة المالية التي تنتهجها الحكومة هو المعول عليه بصفة رئيسية في فاعلية السياسات الاصلاحية الهادفة الي الخروج بالاقتصاد الوطني من ازمته الراهنة.
ومن واقع "اجندة" رامز فان هذه القضية وما تمثله من تحدي تحظي باهمية استثنائية داخلها, فمحافظ "المركزي" الجديد يدرك جيداً ان تعارض السياستين النقدية والمالية يعطل من مفعول كلتيهما ويؤثر علي مرودودهما في خدمة الاقتصاد ولذلك فان صعوبة هذا التحدي تكمن في المواءمة بين انسجام السياستين , من حيث "التوسع" او "الانكماش" من جهة, ومتطلبات السيطرة علي معدلات التضخم والحفاظ علي استقرار المستوي العام للاسعار من جهة اخري.. فاذا كان اتباع سياسات توسعية تزيد من عرض النقود لتشجيع الاستثمار في السوق وكان ذلك ياتي علي حساب ارتفاعات غير مقبولة لمعدلات التضخم وارتفاع الاسعار فان هذه السياسات تصبح غير ملائمة بل ومرفوضة, بينما يمكن ان تصبح سياسات اخري ملائمة اذا كانت "انكماشية" إلي الحدود التي تراعي عدم انفلات معدلات التضخم والسماح بمعدلات ايجابية لجذب وتحفيز الاستثمار.
وهنا - تحديداً - مكمن الصعوبة والخط الفاصل في ترجيح السياسات الملائمة توسعاً او انكماشاً هو عدم الحاق الضرر بالمستوي العام للاسعار الذي يؤثر في تكلفة المعيشة والقوي الشرائية للمواطن غير ان اختيار السياسات الملائمة وحده لا يضمن نجاح السياسية النقدية, لان فاعلية هذه الاخيرة مرة اخري يعتمد علي ازالة التعارض فيما بينها وبين السياسة المالية للحكومة.
لن تتغير اهداف السياسة النقدية من "العقدة" الي "رامز" فاستهداف التضخم سيظل هو القائد, ولكن سيتعين علي المحافظ الجديد ان يحث الحكومة علي عدم اتباع سياسات مناهضة علي نحو حاد لما يتبعه من اجراءات علي صعيد السياسة النقدية, واحد اهم مظاهرها الضغط علي "المركزي" لزيادة الاصدارات النقدية تحت اي ذريعة وهو ما ينبغي التحفظ عليه حتي ولو كان ذلك بدعوي مواجهة زيادة اعباء عجز الموازنة العامة طالما كان هدف السياسة النقدية هو التصدي للتضخم الذي من الطبيعي ان تتزايد معدلاته في ظل زيادة الاصدار النقدي الذي لا يواكب زيادة في الانتاج عبر السلع والخدمات وبالتالي يرفع من اسعار المعروض القائم.
واذا اضفنا الي ذلك ان الحكومة اشارت الي تبنيها سياسات انكماشية فلا يجوز في هذه الحالة ان تطالب بزيادة الاصدار النقدي, وهذا ما يرفع من درجة صعوبة تحديد "هوية" السياسة النقدية في المرحلة الراهنة خاصة عندما يكون الهدف التشغيلي للسياسة النقدية هو سعر الفائدة الذي يعتمد "المركزي" عليه في امتصاص فوائض السيولة حيث يتحرك هذا السعر طردياً مع ارتفاع حجم السيولة بالسوق ومن غير المقبول في هذه الحالة ان تكون السياسة النقدية اكثر تكلفة مع زيادة المعروض النقدي نتيجة زيادة الاصدار والحاجة الي امتصاص الفائض لتفادي ارتفاع التضخم لان مثل هذه السياسات الدائرية لا تقود الي اصلاح وهو ما ينبغي علي الحكومة ان تدركه جيداً حتي لا تزيد مهمة "رامز" صعوبة.
اهم ما ينبغي تحقيقه في هذا الصدد هو الحرص الكامل علي استقلالية البنك المركزي واستقلالية قراراته بصفة ناجزة لمساعدة "رامز" في حسم "هوية" السياسة النقدية التي هو ادري بها من غيره.. وإذا ما فعلت الحكومة ذلك واحترمت هذه الاستقلالية فسوف تفسح الطريق امام "رامز" لاظهار مهارته.