الثورة السلمية لشباب 25 يناير التى قادت جماهير مصر نحو فجر العزة والكرامة بريئة من مثل هذه الأفعال التى هالنى أن أعرف بها, فنحن الشعب الذى عانى من عسف أجهزة الأمن حتى وقت قريب مضي, وبالرغم من أن من عانى قسوة الظلم يفترض أن يكون أحرص الناس على ألا يمارسه ضد أحد أياً كانت مبرراته أو دوافعه, إذا بنفرٍ منا فجأة ينقلب إلى النقيض, ويصبح جلاداً يذيق الناس من ذات الكأس التى شرب منها!!
أفهم أن الظلم الذى عانى منه العمال فى بعض المصانع كان صارخاً ولم يكن أحداً من المسئولين داخل هذه المواقع يشعر بهم, وأن ذلك يستوجب الاحتجاج والتمسك بتحقيق المطالب, ولكن أن يتحول العمال إلى تنفيذ حكم بالإعدام أو التصفية ضد العضو المنتدب لشركة كفر الدوار للغزل والنسيج, فهذا ما لم أفهمه على الإطلاق لأن ثمة طريقة كانت لمعاقبة هذا المسئول ليس من بينها هذا السلوك الذى كنا نستنكره على رموز البطش والتنكيل.. ليست هذه هى روح الثورة, إنما هى روح الفوضى والترويع التى أشجبها ويشجبها كل إنسان سوي فالمجرم أياً كان له الحق فى الحصول على محاكمة عادلة تلك هى حقوق الإنسان التى كنا نطالب بها, ولم أعرف _ بصفة شخصية _ المغدور رأفت جنيدى وربما كان _ أو لم يكن _ هو السبب فيما عانى منه عمال هذه الشركة, ولكنه يقيناً لم يكن يستحق ما لقاه.
إلام يقود مثل هذا السلوك؟! إن هذا السلوك وأشباهه بمثابة "تفخيخ"للثورة ربما تكون أصابع خفية وراء التحريض عليه, وهو يهدف إلى الإنقلاب عليها, ولهذا لابد من مواجهة هذا السلوك بحزم ورؤية واعية لما يمكن أن يقودنا إليه إذا نحن فرطنا فى حق الوطن, أن أساس العقد الاجتماعى السليم هو إنفاذ القانون عوضاً عن إرادة الفرد أو الفئة التى لا ترى سوى مصلحتها فقط.
مصر أولاً.. ليس شعاراً, وإنما هو منهج حياة, وبرنامج عمل يتعين الإنتقال به من مستوى القول إلى حيز التنفيذ, كما قلت فى المقال السابق على كل القوى التى تستطيع أخذ زمام المبادرة لإعادة بناء مصر الجديدة عليها أن تسرع بالعمل, فما حدث ويخشى من تكراره لن يردعه سوى إشاعة ثقافة جديدة للاختلاف, وبدء العمل دون انتظار حتى تصبح مثل هذه الاحتجاجات مجرد جزر منعزلة إما تستجيب لقواعد الوفاق الاجتماعى وتنخرط ضمن العقد الاجتماعى الجديد وتقبل منطق التفاوض الضاغط, وإما تعلن عن وقوفها فى مواجهة قيم المجتمع منفردة.
مصر أولا. ينبغى أن يكون برنامج عمل لإيجاد تحالف عام بين جميع القوى التى تريد لمصر أن تتبوأ المكانة التى تستحقها, فالمواطن المصرى يستحق أكثر مما كان متاحاً له فى السابق لأن مناخ الحرية يدفع إلى مزيد من العمل, ويشجع قوى الانتاج وبالمثل الإبداع على إخراج أفضل ما عندها لهذا لابد من مبادرات تصنع برنامج واضح من العمل حتى تصبح مصر أولاً إلتزام مجتمعي, ولأنى أثق فى التطور الذى وصلت إليه البنوك الوطنية فى مصر, فقد إقترحت بالأمس أن تأخذ زمام المبادرة, ولازلت أنتظر أن تفاجئ السوق إحدى قيادات هذه البنوك بالخطوة الأولي.
تستطيع البنوك أن تفعل ذلك فهي علي سبيل المثال أمامها في البداية مهمة بالغة الأهمية, تتمثل في انتخاب الرأسمالية الجديدة التي ستتولي معها مهام البناء في المرحلة المقبلة, ولا ترجع صعوبات هذه المهمة إلي نقص في حجم هذه الفئة, وإنما لأحد أمرين, الأول أنه يصعب البدء بإنشاء أو انتخاب رأسمالية وطنية من العدم, وبالتالي سيكون علي البنوك أن تتولي مهمة الفرز بالنيابة عن المجتمع ومن واقع سجلات التعامل السابقة لترشيح فئة أقل ارتباطاً بقواعد النظام السابق, وبعداً عن شبهات الفساد, وهو وأن بدا أمراً صعباً لكنه غير مستحيل, أما الأمر الثاني فهو أن البنوك كانت في الأصل تواجه مشكلة هيكلية في هذا المستوي تتعلق بتكالبها جميعاً علي شريحة محدودة يبلغ قوامها نحو 50 عميلاً فقط يمثلون كبري الشركات ذات الملاءة المالية المرتفعة التي لا يخشي علي أموال البنوك من توجيه الائتمان إليها وبالتالى هم مضطرون الآن للبحث خارج هذه الفئة أو علي الأقل اختيار الأنسب منها للتعبير عن طموحات المرحلة الجديدة.. وفي كل الأحوال يتعين عليها القيام بهذه المهمة لأنه لم يعد مسموحاً للسلطة التنفيذية أو أي سلطات أخري بتزكية أحداً من رجال الأعمال.
هذا يعني أن تُعمل البنوك القواعد والمعايير الفنية وحدها في عملية الترشيح المرتقبة, وتجعل منها إلي جانب عدم التورط في عمليات الفساد المرجعية الوحيدة للترشيح.. تستطيع البنوك أن تفعل هذا جنباً إلي جنب مع إيجاد فئة رجال أعمال وأصحاب مشروعات جديدة وحقيقية هذه مرة من قوي الطلب علي الائتمان الصغير والمتناهي الصغر, لأن هذا القطاع استطاع قيادة التنمية في الهند وإندونيسيا بصورة ناجحة, والبنوك تستطيع تقديم جهد وافر في هذا الصدد.. لهذا أجدد مطالبتي لها بطرح المبادرة الأولي والبدء فوراً.. وسوف أواصل في مقالات لاحقة الحديث عن خريطة طريق إلي هذا الدور الحاسم.
مصر أولاً.. ولا ينبغي إلا أن تكون كذلك.