بالرغم من محاولات زعزعة الاستقرار التي تحركها أصابع خفية في مصر لحرف الثورة فيها عن مسارها, ومحاولة الالتفاف علي مكتسباتها, فاجأتنا حكومة الدكتور عصام شرف, بعدد من التحركات الإيجابية التي لم تأخذ حظها من الاهتمام الإعلامي والجماهيري علي أهميتها الفائقة, وتوارت إلي المرتبة الثانية, وربما الثالثة خلف العناوين الصحفية التي اهتمت بالتحركات لوأد الفتنة الطائفية, وتغليظ العقوبات في مواجهة أعمال البلطجة, وترويع المواطنين, هذه التحركات تمثلت في مسارعة الحكومة إلي المجلس الأعلي للقوات المسلحة لطلب الشرعية لجميع القوانين التي كانت سارية ولم يثبت عوارها لاستمرارها وتفعيلها خلال الفترة المقبلة.
وربما لا يدرك الكثيرون أهمية هذا التحرك, ولكن يكفي لتقدير أهميته أن نعرف أن الموازنة العامة التي يتم تنفيذها وتنظم تدفق موارد الدولة وأوجه إنفاقها يستلزم تغييرها مشروع قانون, وهوأمر غير وارد ويصعب العمل علي تحقيقه حتي لو كانت تشكيلة الحكومة الحالية من العباقرة والجهابذة لأن هذه الموازنة أصبحت علي أعتاب الربع الأخير منها, ولا يوجد مناص من إكمال التزاماتها, خاصة تجاه الأجور وما يتعلق بسياسات البعد الاجتماعي, بالرغم من تأثر الموارد سلباً, كما أن أي تعديل يقتضي وجود سلطة تشريعية لإقراره, وهي غير قائمة الآن.
ولهذه الجزئية تحديداً, وبهدف إضفاء المشروعية علي أي إجراء تتخذه الحكومة كان لجوئها إلي المجلس الأعلي للقوات المسلحة.
علي أن قضية بالغة الأهمية ترتبط بسريان القوانين, وعدم تعطيل النظام القانوني للدولة كانت تشغلني للغاية قبل تحرك حكومة "شرف", وأعترف أن هذا التحرك طمأنني إلي حد ما.. فقد كنت اتساءل في مثل هذا الوضع الذي يعيش فيه الوطن كيف يمكن للاستثمارات الأجنبية أن تعاود التدفق إلي الداخل أو ترجئ الخروج منه إذا لم تكن هناك تشريعات واضحة أو إشارة من الحكومة أو السلطة الحالية إلي إحترام القواعد والتشريعات التي جذبت في السابق تلك الاستثمارات – دون مساس في الأصل بالمصالح العليا للبلاد – ويفترض أن تستمر في جذبها مستقبلاً, وهكذا لم تتأخر "إشارات" حكومة عصام شرف وجاءت لتؤكد حسن الظن بها.. فعلي هذا النحو تصبح استعادة الاستقرار الأمني مرادفة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
لم يكن تصرف "شرف" وحكومته محض مصادفة, ولكن كان تحرك واع لأن رئيس الوزراء ونفره الذين شاركوا أمس في الاجتماع مع المجلس الأعلي للقوات المسلحة أقروا بموافقة المجلس إدخال تعديل ضروري علي إجراء تنظيمي بقانون سوق رأس المال للحفاظ علي المصلحة العامة يتعلق بالنسب الخاصة لعمليات شراء الأوراق المالية بالهامش, والتي رأت الحكومة تقييدها مراعاة لظروف التداول في الفترة المقبلة, وكذلك طلب نقل تبعية هيئة الاستثمار إلي مجلس الوزراء للإسراع باتخاذ القرارات التي من شأنها الدفاع عن المصحلة العامة في هذا المجال سواءً بتقييد الاستثناءات أو منح التيسيرات عند الضرورة, وهو ما من شأنه أن يجعل الحكومة علي أهبة الاستعداد لتشجيع المستثمرين, خاصة العرب منهم الذين أظهروا رغبتهم في دخول السوق المصرية للاستثمار.
ولم تكتف الحكومة بذلك بل قامت بنقل تبعية هيئات السلع التموينية, والمصوغات والموازين ومصلحة السجل التجاري, والتحكيم واختبارات القطن, وجهاز حماية المستهلك إلي وزارة التضامن الاجتماعي للإقرار بمبدأ تعارض المصالح في بقاء تبعية بعضها لوزارة المالية أو وزارة التجارة, وهي قاعدة لم تكن تراعي في ظل الحكومات السابقة مما ساعد علي استشراء الفساد.
إشارات "شرف" وحكومته جاءت حاسمة في توقيتها حيث كان الزميل الصحفي يوسف أحمد قد كشف في إنفراد لموقع "الخبر الاقتصادي" أن ما خسره الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية حتي نهاية فبراير الماضي قارب فعلياً علي 6 مليارات دولار, حيث إنضافت نحو 3.3 مليار دولار جديدة من بند الودائع غير المدرجة بالأصول الاحتياطية, وهو أحد مكونات ذلك الاحتياطي التي يتم توظيفها ولا يظهر رصيدها ضمن الاحتياطيات الرسمية المعلنة والتي بلغت خسائرها 2.7 مليار دولار, وفقاً لأرقام البنك المركزي نفسه, وهو ما كان يستدعي تحرك رسمي ملموس من جانب الحكومة للتفاعل مع هذا التطور واستيعاب آثاره, وإعادة عجلة النشاط الاقتصادي إلي الدوران, بقوة لتعويض ما حدث من شلل خلال الفترة الماضية.
وقد كان هذا – تقريبًا – تقديرنا للأمور الذي دفعنا للإعلان عن مبادرة لتأسيس
إئتلاف "اقتصاديون من أجل مصر" قبل يومين بهدف تسليط الضوء علي هذا الواقع والسعي إلي إيجاد وعي عام بأهمية النهضة الاقتصادية.. ولعل ذلك يدمغ الباطل فيذهبه, ويبقي ما ينفع الناس.